عبد الأمير الركابي *انتهت الجولة الأولى من المواجهة مع الاحتلال الأميركي للعراق. وقد اتسمت بغلبة الجانب العسكري، وتميزت بفعالية غير عادية في هذا المجال أدت إلى دحر المخطط الأميركي الذي رافق الاحتلال وبرر الغزو. وهي قلّصت مداه، ووضعته في مأزق عسكري وسياسي خطير، أنهى بصورة لا تقبل التأويل السياسة العدوانية المرافقة لمشروع الإمبراطورية الأميركية، ونزعة الهيمنة على العالم وأشكالها المبتكرة. وكانت من الأسباب المباشرة للأزمة الاقتصادية والسياسية التي أصابت المركز الإمبراطوري، ونتج منها اندحار كامل لمجمل مشروع «المحافظين الجدد» عالمياً.
ومع كل تلك المنجزات الهامة، إلا أن «المقاومة المسلحة» العراقية لم تكن ترتقي إلى مستوى المشروع الوطني العراقي الشامل. ولم تستطع التحول إلى مقاومة شاملة، وظلت على هذا الصعيد تعاني نقصاً خطيراً، كان من أسباب تراجعها، وتعطل فعاليتها، وانحسارها كما هو حاصل الآن.
تميزت المقاومة المسلحة العراقية للغزو بجملة من الخصائص أُغفلت كلياً مع الإصرار على الطابع العام الشرعي والمبدئي لحق المقاومة المعروف. كما تعمد البعض إغفال الجانب التاريخي والبنيوي وسياق تطور الصراع داخل المجتمع العراقي الحديث. وباسم حق المقاومة، أصر البعض على تجريم كل من لم يبادر إلى الالتحاق بحاملي السلاح، وهو نزوع يخفي رفض الاعتراف بالأخطاء، والتنكر للأسباب التي أدت أصلاً إلى انتصار الغزو. وفي هذا المجال بالذات، أظهرت السنوات الماضية من عمر الاحتلال أن مدخله الوحيد إلى الواقع العراقي، للتلاعب به، ينبع من أمراض الواقع السابقة على الغزو. فمشروع الدولة التي ترفع شعار «العلمانية» أو العلمانية الشديدة التطرف أحياناً، وهي تبطن عملياً نزوعاً فئوياً واستئثارياً، قد طغى الآن على ردود الأفعال. وبقايا الدولة التي هزمت وانهارت، مع قاعدتها وركيزتها الاجتماعية الضيقة نسبياً، هي التي هبّت لمقاومة الاحتلال فوراً، مع كل ما بيد هذه من ملاكات وأسلحة وخبرات تعود لـ82 سنة من التاريخ العراقي المعاصر. وكما هي الحال قبل الغزو الأميركي، استمر الموقف بين هذه الأوساط بعده، ولم نعرف للمقاومة غير شعارين هما «العودة لما قبل 4/9/2003» أو «المقاومة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي». وهما شعاران يعززان الجزئية والفئوية، ولا معنى لهما غير تغذية الصراع القديم أصلاً بين الفئات والمكوّنات الاجتماعية الأكبر، لا بل نقله ليوضع اليوم، في ظل الاحتلال، تحت خانة الاحتراب الطائفي.
ركزت قوى المقاومة المسلحة على الموقف من الاحتلال من دون حساب مسألة الترابط بين العمل المسلح والوحدة الوطنية
ويغفل هذان الشعاران حقيقة كان قد بلغها تطور الوضع العراقي، والضرورات الوطنية العراقية المستجدة، عندما صارت قضية «الوطنية» ومفهومها مرتبطة بنزوعين مترابطين ولا يمكن الفصل بينهما: مقاومة الهيمنة بأشكالها المختلفة، والديموقراطية. وهذان المنحيان جرت محاولات دؤوبة قبل الغزو، وبالذات خلال الفترة بين 1990/2003 لبلورة ترابطهما الحي والضروري، واعتبر ذلك من قبيل النهج اللازم أصلاً، تحت ضغط الظروف التي عاشها العراق خلال الفترة السابقة على الغزو، وهو مهدد ومحاصر والدولة فيه توشك على الانهيار. وبعد الغزو، كان لا بد من أن تستدرك المقاومة هذا الجانب بالذات، وهو ما لم يحدث، بل حدث ما يعاكسه تماماً، وتم الهبوط بالمفهوم الوطني درجات ليتحول إلى التصورات البدائية والأحادية الإنشائية، فأصرّت القوى التي تصدّت لقيادة هذه الظاهرة أو التعبير عنها، على تكريس نزعة تركز على الموقف من الغزو والاحتلال، من دون محاولة حساب مسألة الترابط بين العمل المسلح والوحدة الوطنية، وهو الشرط الذي يجعل من المقاومة مشروعاً وطنياً شاملاً.
ومن الأمانة ألا ينكر وجود نزوع وطني شامل كان قائماً منذ بداية الغزو، وسعى إلى بلورة «مفهوم وطني للمقاومة العراقية»، ركز على شعار «المؤتمر التأسيسي العام»، وعلى الربط بين قضيتي الوحدة الوطنية والعمل المسلح، وسعى إلى عقد مؤتمرات في هذا الإطار. وقد ركزت عليه حملة شعواء، وسعى الطرف الذي يتبنى النزوع الجزئي والفئوي الطائفي إلى تشويه صورته، مما يدل على أن أولئك الذين تصدروا التعبير عن المقاومة العراقية الجزئية، سياسياً وإعلامياً، كانوا واعين إلى حد بعيد لدورهم ومهمتهم، وظلوا يرفضون بشدة وعنف كل ما قد يوحي بوجود نزوعين مقاومين، أحدهما جزئي وفئوي والآخر يدعو إلى مشروع مقاومة وطني شامل.
أصحاب النزوع الأول الذي ظل هو الطاغي، يعانون اليوم مأزقاً قاتلاً. وموضوعاتهم وخططهم تتراجع بسرعة وباطراد، وجبهتهم تتفتت. بينما يصاب البعض من كتاب هذا الميل بما يشبه الهستيريا وهم يواصلون التخبط. الأمر الذي يثير سؤالاً حاداً عن النخبة الوطنية العراقية المؤهلة للتعبير عن اللحظة التاريخية، ومدى تضعضع هذا العامل الاستثنائي في التاريخ العراقي الحديث واهترائه. وذلك أمر يحال إلى خسائر المراحل الماضية من عمر الدولة الأحادية القمعية. المقاومة العراقية المسلحة أدت دوراً كبيراً جداً لكنها انتهت. وفي عام 1920، حين انتهت المقاومة المسلحة، تحول الوطنيون والنخبة الوطنية المعاصرة الوليدة، إلى نوع آخر من المقاومة. وتمكنوا من حشد قوى المجتمع، وإقامة أحزاب وقوى الحركة الوطنية المعاصرة، واصلت عملها لمدة 38 عاماً بعد توقف الثورة الوطنية المسلحة العامة، إلى أن أسقطت النظام الملكي عام 1958. وجعفر أبو التمن، أبو الحركة الوطنية العراقية المعاصرة، وأهم الناشطين في قيادة ثورة 1920 المسلحة، هو من أسس عام 1922 «الحزب الوطني العراقي» الذي تفرّعت منه الأحزاب المعروفة، الماركسية والليبرالية والقومية.
من البديهي أن يواصل التيار الداعي إلى «المقاومة العراقية الشاملة» طريقه ويعود إلى إظهار صحة توجهاته. ولن يكون ذلك ممكناً إلا إذا سارع لمواجهة اللحظة الحالية من مسار المقاومة والعمل الوطني، وتمكن من بلورة موقف واتجاه عملي يتطابق مع الضرورات الوطنية، ويحقق المطلوب: أي التحرير وإعادة بناء الوطنية العراقية. وتلك مهمة ضخمة وصعبة للغاية، لكنها ليست مستحيلة. أما على مستوى المفهوم والخطاب والتوجهات، فالمفترض أن يرفع اليوم شعار المراجعة. ومع أن هذا الطريق معقّد ولا يزال يلاقي رفضاً، مصدره العجز عن تصديق الواقع، والخوف من فقدان مواقع متوهمة، إلا أن الضرورة ستفرض في النهاية ما هو متفق مع الحقائق الملموسة: العراق بحاجة إلى البحث عن «طريق جديد للمقاومة»، طريق يكون الأقرب إلى صيغة عراق المستقبل لا أي شكل من أشكال الماضي.
* كاتب عراقي