حسام كنفانيانفرجت الأسارير الفلسطينية وسقطت الهواجس وعادت الحياة إلى مسارها الطبيعي: المجلس المركزي لمنظمة التحرير مدّد ولاية رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس. لا داعي للقلق بعد اليوم، لا فراغ سلطوياً ولا سقوط في حال «اللازعامة»، المسيرة ستستمر وأبو مازن باق على رأس «الشرعيّة» ليكمّل «رسالته السلميّة».
من استمع إلى عبّاس في افتتاح أعمال المجلس المركزي يوم الثلاثاء الماضي، لا بد أنه التقط فحوى هذه الرسالة المتعدّدة الأوجه. السطر الأول يتلخّص في عبارة «لن نقبل بأي عودة للعنف». لكن عن أي عنف يتحدث من يفترض أن يكون رئيساً لأراضٍ لا تزال محتلة. من المؤكّد أنه لا يعني العنف الاحتلالي، حديثه كان موجّهاً إلى أبناء وطنه. العنف في رسالة عبّاس يعني مجابهة قوّات الاحتلال.
أبو مازن ضدّ العنف. كان من الممكن القول إنه يتقمّص شخصيّة المهاتما غاندي في نضاله السلمي ضد الاحتلال، لكن مثل هذا التوصيف لا ينطبق على عبّاس، الذي ألغى عبارة «النضال» أو «المقاومة» من قاموسه منذ زمن بعيد، لا سلمي ولا عنفي. ألغى العبارة واستبدلها بكلمة «السلام»، التي إذا أردنا أن نحصي مرّات استخدامها في جمله لما استطعنا. حتى إنه في آخر مرة وضعها مرتين في جملة واحدة «لا سلام إلا عبر مفاوضات السلام».
من الصعب أن نجد أحداً في العالم حريصاً على السلام بقدر محمود عبّاس، الذي لا شك أنه يعيش حالة من الاستغراب والامتعاض لاستبعاده حتى الآن عن «جائزة نوبل» ومنحها لرئيس مؤيّد للعنف ويخوض حربين.
السطر الثاني في الرسالة كان فلسطينيّاً داخليّاً. في هذا المجال اعتمد أبو مازن استراتيجية استباقية على قاعدة المثل العامي «تغدى فيه قبل ما يتعشاني». ووفق هذه الاستراتيجية، كشف أنه رفض عرضاً من حركة «حماس» لتمديد المجلس التشريعي والرئاسة لمدة ثلاث أو أربع سنوات. رغم أن ما رفضه عبّاس من الحركة الإسلامية، ها هو يقبل به لكن من المجلس المركزي لمنظمة التحرير، ويغلّفه بعدم القدرة على إجراء الانتخابات في المرحلة الحالية، نظراً إلى حال الفصل القائمة بين الضفة الغربية وغزّة، ورفض «حماس» السماح للجنة الانتخابات بالعمل داخل القطاع.
عبّاس يريد أن يظهر على أنه حارس للشرعيّة والخيار الشعبي، وأنه المعارض لرغبات «حماس» السلطويّة واحتكارها للحكم ورفضها للديموقراطية «أشهد بالله أنهم لا يؤمنون بالديموقراطية ولا يؤمنون بالوطن لأسبابهم الخاصة». وعلى هذا الأساس، فهو لم يقبل إلا «التمديد المتوازن»، أي أنه ليس حكراً على الرئاسة، بل على المجلس التشريعي أيضاً، رغم أن القاصي والداني يعلم أن هذا المجلس بحكم غير الموجود، وأن مفاعيله الحكومية غير ذات تأثير بعدما أقال أبو مازن حكومة اسماعيل هنية واعتبرها «خارجة على القانون».
كذلك، فإن التوازن جعل من التمديد مؤقتاً «حتى الثامن والعشرين من حزيران المقبل»، وهو الموعد المحدّد في الورقة المصريّة لإجراء الانتخابات الرئاسيّة والتشريعية. أما إذا لم تتم المصالحة وفقاً لهذه الورقة، وبقيت الأمور على ما هي عليه، فليس أسهل على عبّاس من إعادة جمع المجلس المركزي لإعادة البحث في «مصير الشرعيّة»، وبالتالي الحصول على تمديد «قسري» إضافي.
ولتكتمل الصورة التي يريد أبو مازن رسمها، لا بد من إعادة تأكيد «الزهد» في الحكم: «لن أرشح نفسي للانتخابات، لن أرشّح نفسي للانتخابات». التكرار ضروري للجزم في الموقف الذي أثار لغطاً منذ الإعلان عنه. لكن فليتبرع أحد ويبلغ أبو مازن بضرورة التوقف عن ترداد هذه الجملة وكأن الانتخابات على الأبواب. فعلى الأقل لا حديث انتخابيّاً قبل ستة أشهر، إذا تمت المصالحة، وإذا لم تتم فلن يكون هناك حديث قبل عامين، وبالتالي لا حاجة لتكرار الموقف والظهور كضحيّة أوتي به إلى الحكم غصباً عنه.
ومنذ إعلانه الأول عن رفض الترشّح، قبل أكثر من شهر، دأب أبو مازن على إرفاق الرفض بعبارة «لديّ خطوات أخرى سأعلنها في وقت لاحق». أسلوب سينمائي تشويقي، غير أن مشكلته إلى الآن هي أن هذا الوقت لم يحن بعد، ومن غير المعلوم متى سيحين. لكن جردة الخطوات التي يمكن أن يقوم بها عبّاس، إذا استثنينا المقاومة المستثناة أصلاً من حساباته، فإنه لا يبقى شيء جوهري سوى الاستقالة وحل السلطة. خطوة جبّارة لا شيء يوحي بأن أبو مازن، الممدّدة ولايته، في طور الإقدام عليها.
عبّاس حصل على التمديد وقال ما يريد، وترك الباقي لـ«الوقت اللاحق».