strong>جورج باكر*عندما كان رئيس لجنة نوبل النروجية ثوربيورن جاغلاند يقدم جائزة السلام لباراك أوباما الأسبوع الماضي، اقتبس من الرابح الأسود السابق للجائزة مارتن لوثر كينغ. وأضاف إلى اقتباسه «سيدي الرئيس نحن سعداء أن نرى جزءاً كبيراً من حلم الدكتور كينغ قد تحقق عبر وجودك هنا». أومأ أوباما برأسه ولوى شفتيه كما يفعل عندما يكون متأثراً. ربما كان يفكر بمقطع من الخطاب الذي كان على وشك إلقائه، وفيه عبارات تبعده عن نظريات اللاعنف الخاصة بكينغ وألمهاتما غاندي. «بما أنّي رئيس دولة أقسمت أن أحمي بلادي وأدافع عنها، لا أستطيع أن أتقيّد بمثليهما فقط»، قال أوباما، عندما حان دوره في الكلام. «أنا أواجه العالم كما هو ولا يمكنني أن أتقاعس في وجه التهديدات بحق الشعب الأميركي. لا تخطئوا، فإنّ الشر موجود في العالم».
لم يكن هناك أي طريقة أمام الرئيس كي يتحاشى التطرق إلى التنافر الواضح بين قراره إرسال ثلاثين ألف جندي إلى أفغانستان كما أعلن منذ أسبوعين في وست بوينت، وتلقي جائزة السلام. لكنّه عوضاً عن المرور السطحي على تلك المسألة، جعل منها محور خطابه. فخصص النصف الأول من الخطاب لما سمّاه تحدّي «مصالحة الحقيقتين اللتين تبدوان متناقضتين، أي مقولة إنّ الحرب ضرورية أحياناً، وإنّها تعبير عن جنون الإنسان». يمكن تلخيص النقاط الأساسية في سياسة أوباما بما يلي: تخطي التناقضات الظاهرة، مصالحة المتناقضات، إيجاد توازنات، والعيش مع التناقضات. «نستطيع الاعتراف بأنّ الاضطهاد سيكون دائماً معنا، وسنناضل من أجل العدل»، ختم أوباما. «نحن نفهم أنّه سيكون هناك حرب وسنسعى من أجل السلام». هو رئيس القدرات السلبية إذاً.
في أوسلو 1964، استخدم كينغ أسلوباً خطابياً مميزاً، ووضع الحب والعنف في مواجهة بعضهما بعضاً في صراع كوني. بعد خمسة وأربعين عاماً، استخدم أوباما لغة الأمل المعقد والمخفف. تماثل مع واقعية جون كينيدي الأخلاقية أكثر مما فعل مع طوباوية كينغ. تحدث عن «الأسئلة الصعبة في علاقة الحرب والسلام»، مضيفاً أنّه «لم أحضر معي اليوم حلاً نهائياً». وبعدما ناقش الصعوبة في التوفيق بين النصائح والدبلوماسية في نشر حقوق الإنسان، اعترف بأنّه «ما من وصفة بسيطة هنا». لكن هذا التواضع الفلسفي ليس الفرق الوحيد بين سياسي ونبي، إذ غيّرت الرئاسة أوباما. قارنوا خطاب نوبل بذاك الذي ألقاه في ساحة تيرغارتن في العاصمة الألمانية برلين في تموز 2008، حين تحدث عن رؤيته المستقبلية لعلاقات الشراكة الأطلسية. دعا حينها مستمعيه المئتي ألف المنتشين به ليهدموا كلّ الجدران الباقية بين الناس. الأسبوع الماضي، لم يقل أوباما للأوروبيين ما كانوا يريدون سماعه، وردّة فعل الحضور، في مركز بلدية أوسلو الذي يوحي ديكوره بأنّه مدرسة حضانة قديمة، تمثلت بالتزام الصمت.
بين هذين الخطابين، أمضى الرئيس شهوراً يحاول أن يقرر إن كان سيرسل شباناً أميركيين ليقتلوا ويموتوا في أفغانستان ولماذا. بدا كأنّه أنهى تعليماً ذاتياً مكثفاً أثناء مراجعته سياسته التي تضمنت زيارات إلى مستشفى والتر ريد (خاص بالجيش) ومقبرة آرلنغتون الوطنية (حيث يدفن الجنود) مع اقتناع جديد يتعلق بسلطته كرئيس للقوات المسلحة. في أوسلو، كان أوباما في الواقع يستخدم خدعة الطاغية على اليمين واليسار على حد سواء. لطخت المثالية الإنجيلية والفظاظة العسكرية الخاصة بجورج دبليو بوش قضية حقوق الإنسان بالعار، أكثر مما أفادتها. في ويست بوينت كما في أوسلو، كان تقييم أوباما الواقعي لساحة عالمية من الخيارات السيئة توبيخاً ضمنياً لتبسيطات أسلافه. لكنّه قال إنّ الأسلحة الأميركية وسفك الدماء، وليس الحلم بالسلام العالمي، هي التي ساعدت «في تأمين الأمن العالمي لستة عقود». ليس هناك خيارات جيدة لكن هذا لا يعفي الأميركيين من مسؤوليتهم للاختيار، وأحياناً لاختيار طريق «الجنون الإنساني».
ليس هناك مذهب خاص بأوباما حتى الآن. لدى الرئيس نظرية لاهوتية متطورة، وإيمان غير مثالي بأنّ الشوائب الإنسانية حتمية، لكن تقدم الإنسان ممكن إذا بقي الناس ينظرون بعين النقد الذاتي تجاه ما يمكنهم تحقيقه. هذه نظرية راينهولد نايبور الذي سماه أوباما «أحد فلاسفتي المفضلين». في إحدى أمسيات 2007 بعد مغادرته مجلس النواب، قال أوباما عن نايبور لمراسل مجلة «تايمز» دايفيد بروكس: «أنا مؤمن بوجود شرّ كبير في العالم، وشقاء وألم. يجب أن نكون متواضعين في إيماننا بأنّه يمكننا القضاء على كلّ ذلك. لكن يجب ألا نستغل ذلك كعذر للسخرية والتقاعس عن العمل. يجب أن نقوم بهذه الجهود رغم معرفتنا المسبقة بأنّها صعبة، ويجب عدم الانتقال من المثالية الساذجة إلى الواقعية المرّة».

تماثل أوباما مع الواقعية الأخلاقية لجون كينيدي أكثر ممّا فعل مع طوباوية كينغ
روح نايبور حامت فوق خطاب نوبل. دون أن يكون مثالياً أو واقعياً، بدا أوباما كأنّه يقول إنّ القيم العالمية والجيوسياسية العملية موجودة في الجهد نفسه، كالحرب والسلام. الاستعداد هو كلّ شيء وكذلك القدرة على تمييز الفرص وعدم التعثر بالعقبات الصلبة. ذكر الرئيس عرض نيكسون لماو تسي تونغ خلال الثورة الثقافية كمثال عن فعل لا يغتفر، لكنه فعل أنتج على المدى الطويل تحسينات حقيقية في حياة الصينيين. إذا نتج شيء مماثل من نداء أوباما لإيران، فسيعتبر ذلك خرقاً دبلوماسياً تاريخياً. لكن ما من دليل الآن على التقدم.
قال أوباما في خطابه «عندما يكون هناك إبادة جماعية في دارفور، اغتصاب ممنهج في الكونغو، قمع في بورما، فسيكون هناك عواقب». ثم أضاف «سنكون شاهدين على الكرامة الصامتة لمصلحين من أمثال انغ سان سو كيي، شجاعة شعب زمبابوي الذي اقترع وفق قناعاته ضد الاعتداءات، والتظاهرات الصامتة لمئات الآلاف في شوارع طهران». كان هذا الجزء الأقل إقناعاً في الخطاب، إذ لم يكن هناك عواقب في دارفور، والذين شهدوا على ما حصل في إيران لم يحركوا ساكناً لإطاحة الملالي. تكمن نقطة ضعف مرونة أوباما الاستراتيجية في أنّها تعتمد كثيراً على المهارات العملية، وخصوصاً في الدبلوماسية، وهذا ميدان فقدت فيه أميركا لمستها المميزة على مر العقدين الماضيين. سيبدو الفشل وكأنّه فشل الرؤية والمبادئ. اعتُبرت جائزة أوباما للسلام، عن حق، أنّها سابقة لأوانها. انتقاد صادق أقدم عليه الرئيس بنفسه بداية حين أُعلن عن الجائزة، في تشرين الأول الماضي، ومجدداً في أوسلو. أعطيت الجائزة لمن هو أوباما وما يقوله وليس عما حققه. وقد مثّل الخطاب حكمة يمكن أن تضع إرثه مع من سبقه إلى الجائزة مثل جورج مارشال ونلسون مانديلا، رغم إنجازاته القليلة. من جهة أخرى، يمكن أن تكون جائزة 2009 للسلام شبيهة بنسخة 1926 التي ذهبت لأرستيد برايند الذي شارك في كتابة ميثاق يشرّع الحرب.
* عن «ذا نيويوركر»
ترجمة ديما شريف