معتصم حمادة *التاريخ لا يكرر نفسه، لكن ثمة وقائع قد تتشابه في ما بينها، رغم تباعدها زمنياً. من هذه الوقائع تلك الجولة الواسعة للرئيس محمود عباس في عدد من عواصم العالم، يلتقي خلالها رؤساء الدول لبحث آخر مستجدات الملف الفلسطيني، بما في ذلك توقف العملية التفاوضية، والتوجه الفلسطيني، والعربي، للّجوء إلى مجلس الأمن الدولي والطلب إليه الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية، في موقف يبدو كأنه ينعى العملية التفاوضية في صيغتها الحالية وشروطها المختلة.
مثل هذه الجولة كان قد قام بها الرئيس الراحل ياسر عرفات لبحث الموقف المتوجب أخذه فلسطينياً، بعدما شارفت المرحلة الزمنية لاتفاق أوسلو على نهايتها، وانقضت فترة السنوات الخمس دون الوصول مع الجانب الإسرائيلي إلى اتفاق على قضايا الحل الدائم.
في ذلك الوقت كان أمام الرئيس عرفات خياران:
الأول، الإعلان عن انتهاء العمل باتفاق أوسلو، بعدما انقضت السنوات الخمس، والإعلان بالمقابل عن بسط السيادة الوطنية الفلسطينية على أرض الدولة الفلسطينية بحدود الرابع من حزيران (يونيو) 67، وعاصمتها القدس الشرقية، وتحويل الصراع عندئذ إلى صراع بين دولة ودولة. الأولى ــــ وهي إسرائيل ــــ تحتل أرض الأخرى، وتمنع عنها حقها في سيادتها على أرضها. والأخرى هي الدولة الفلسطينية المحتلة التي تلجأ إلى المجتمع الدولي لمساعدتها على الخلاص من الاحتلال، بموجب قرارات الشرعية الدولية. وبحيث إذا ما عاد الطرفان إلى طاولة المفاوضات تكون هذه المفاوضات حول أجندة الانسحاب الكامل للاحتلال والاستيطان من أرض الدولة الفلسطينية، المستقلة، والكاملة السيادة، وبحدود الرابع من حزيران (يونيو) 67، وعاصمتها القدس الشرقية. وبذلك تقوم الدولة الفلسطينية وتعود إسرائيل إلى حدود هدنة عام 1949. الخيار الثاني هو تمديد ولاية اتفاق أوسلو سنتين إضافيتين، (بعد انقضاء فترته الأصلية ومدتها خمس سنوات) والجلوس إلى طاولة المفاوضات تحت سقف هذا الاتفاق للبحث في قضايا الحل الدائم.
النتيجة معروفة. لجأ الرئيس عرفات إلى الخيار الثاني. وكانت مفاوضات كامب ديفيد في تموز (يوليو) 2000 ونهايتها الفاشلة بفعل التعنت الإسرائيلي والانحياز الأميركي لمصلحة تل أبيب. بعدها كانت الانتفاضة وما تخللها من تطورات. الرئيس عباس يقف الآن أمام تجربة جديدة، وهو أمام خيارين:
خيار الذهاب إلى مجلس الأمن، والتصادم مع الفيتو الأميركي، ثم اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث لا وجود لفيتو لأحد وحيث يسهل الحصول على قرار بقيام دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران (يونيو) 67 وعاصمتها القدس الشرقية. وهو قرار يأتي في سياق تطبيق الأمم المتحدة لقرارها الرقم 181، باعتباره قراراً يمتلك قوة الإلزام الخاصة بقرارات مجلس الأمن الدولي.
أما الخيار الثاني، فيقتضي العودة إلى طاولة المفاوضات بعدما وفّر الرئيس أوباما الغطاء السياسي لأكاذيب نتنياهو بشأن «وقف الاستيطان»، والتراجع بالمقابل عن كل المواقف السابقة بما فيها النقاط الثماني التي افترضها الرئيس عباس أساساً لأية عملية تفاوضية مقبلة مع الجانب الإسرائيلي.
طاولة المفاوضات هي عبارة عن موازين قوى وليست منبراً للخطابة، أو قوساً قضائياً لتقديم المرافعات القانونية
ولا نذيع سراً إن قلنا إن ثمة من يتخوف أن يعود الرئيس عباس بعد هذه الجولة الواسعة إلى طاولة المفاوضات، طبقاً لشروط نتنياهو ــــ أوباما، باعتبار أن الخيار الوحيد للرئيس عباس هو خيار المفاوضات. وهو يحرص في كل مناسبة على تأييد ذلك، حتى أنه في زيارته إلى بيروت (7/12/2009) أكد عزمه على أن «يقاتل سياسياً» للوصول إلى الحقوق الفلسطينية. وواضح أنه حين يتحدث عن القتال فإنه يرفقه بالسياسة، ولهذا الموقف معانيه التي لا تزال تزرع الشك في نفوس الكثيرين وعقولهم.
ولا نضيف جديداً في هذا السياق، إن نحن قلنا إن عودة عباس إلى المفاوضات، بموجب شروط نتنياهو ــــ أوباما، بعد كل هذه الضوضاء السياسية، معناه انتحار سياسي، ليس للرئيس عباس وفريقه المفاوض وحدهما، بل لعموم الحالة الفلسطينية. وهو أمر، إن حصل، سيدفع بالوضع الفلسطيني نحو تداعيات يصعب على المحلل السياسي أن يحيط بها من نظرة واحدة. وإذا افترضنا جدلاً أن الرئيس عباس سيتجاوز هذا الخيار (وهو ما يفترض أن يكون عليه موقفه)، فمعنى ذلك أنه سيقف أمام استحقاق سياسي آخر يمكن تلخيصه بالسؤال التالي: ماذا بعد اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، والحصول على القرار الدولي بقيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية وبحدود الرابع من حزيران (يونيو) 67؟ وكيف ستكون العلاقة مع الجانب الإسرائيلي؟ وكيف ستكون العلاقة مع الأطراف الدولية؟
الجواب الواقعي يجب أن يكون، بتقديرنا، كالآتي: إن كل تحرك فلسطيني لاحق على قرار الجمعية العامة يجب أن ينطلق من القرار نفسه، وأن يدفع بالأمر إلى الأمام لا أن يعود إلى الوراء. أي بتعبير آخر، يفترض ألا تتكرر مأساة الحالة الفلسطينية مع أوسلو، حين ارتد المفاوض الفلسطيني عن قرار المجلس الوطني بإعلان الاستقلال، وعن قرار جامعة الدول العربية ودول العالم بالاعتراف بدولة فلسطين، وعن قرار الأمم المتحدة بالاعتراف بدولة فلسطين عضواً مراقباً في المؤسسة الدولية. ارتد المفاوض الفلسطيني عن هذا كله، وقبل بالعودة إلى الوراء قفزات واسعة لمصلحة حكم ذاتي أصبح وجوده قيداً على القرار السياسي.
بعبارات أخرى: إن قرار الجمعية العامة بإعلان قيام دولة فلسطينية يضع الفلسطينيين أمام واجب إزاحة كل العقبات التي تحول دون قيام هذه الدولة. والعقبة الأولى، والرئيسية وشبه الوحيدة، هي الاحتلال والاستيطان معاً. وقد أثبتت تجارب الرئيس عباس مع المفاوضات (مع رابين وبيريز، ونتنياهو، وباراك، ثم شارون، وبعده أولمرت، ثم نتنياهو مرة أخرى) أن طاولة المفاوضات، المقيدة بالشروط الإسرائيلية، والانحياز الأميركي، وحالة الضعف الفلسطيني، عاجزة عن توفير شروط رحيل الاحتلال والاستيطان.
كذلك أثبتت تجارب عباس (خلال العمر التفاوضي المديد) أن حالة الضعف لا تقدمه إلى الطرف الآخر شريكاً تفاوضياً. وبالتالي ما دامت الحالة الفلسطينية ضعيفة، سيمارس الجانب الإسرائيلي التعنت ويحتقر العملية التفاوضية، كما فعل أولمرت، على سبيل المثال، في مؤتمر أنابوليس وما بعده.
بالمقابل، أثبتت التجارب الفلسطينية أنه كلما تصلّب العود الفلسطيني، وكلما صار بإمكانه أن يلحق بالجانب الإسرائيلي خسائر، وأن يقض مضجعه، وأن يحوّل المستوطنات إلى جحيم، وأن يحوّل الحواجز الإسرائيلية إلى مقابر للجنود الإسرائيليين، كلما أسرعت واشنطن، وخلفها تل أبيب لتدعو الفريق الفلسطيني إلى طاولة المفاوضات، بما في ذلك تقديم تنازلات. لذلك نعتقد أن ما بعد قرارات الأمم المتحدة، يجب ألا يكون كما قبلها. فقرارات المنظمة الدولية لمصلحة القضية الفلسطينية بداية لمرحلة جديدة، يجب أن يقاتل فيها الفلسطيني كل أشكال القتال، لا سياسياً فقط. وعندما يقتنع الإسرائيلي بأن القرار لدى الفلسطينيين هو القتال، بكل أشكاله، سيقتنع أيضاً بأنّ الأوان قد آن لإعادة النظر بسياسة التعنت وسياسة المعاندة.
وفي هذا السياق، دعونا نذكر بما قاله أحد رجال التاريخ: «إن الضعفاء لا يفاوضون». لأن جلوس الضعيف إلى طاولة المفاوضات معناه استعداده لتقديم التنازلات تلو التنازلات، فطاولة المفاوضات هي عبارة عن موازين قوى، وليست منبراً للخطابة، أو قوساً قضائياً لتقديم المرافعات القانونية، أو التظلمات التاريخية. وإذا لم يبحث الفلسطينيون عن عناصر القوة (وهي كثيرة بين أيديهم) ويسخروها في خدمة قضيتهم الوطنية، فإن الأوضاع ليست مرشحة لأن تتقدم خطوة مهمة إلى الأمام.
* عضو المكتب السياسي
في الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين