ورد كاسوحة *لا شك بأن الوضع الإيراني الداخلي اليوم لا يساعد القيادة المحافظة في مسعاها لإيصال التناقض النووي بينها وبين الغرب إلى «شاطئ الأمان». فالتسوية الفوقية التي أعقبت عمليات القمع الممنهج للمعارضة الإيرانية فاقمت من مأزق النظام تجاه الداخل، في وقت هو أحوج ما يكون إلى «اللحمة الداخلية». لكن مسعى افتراضياً للّحمة لم يكن ممكناً أن يمرّ في دولة استثنائية ومركّبة كإيران دون أن يصطدم بالحلف المثلّث الذي هيمن على البلد تماماً بعد وفاة الخميني (هيمنته في الحقبة الخمينية كانت جنينية إلى حد كبير). وهو حلف مثلّث الأضلاع يضم إلى الملالي (رجال الدين الشيعة) طبقة البازار (البورجوازية التجارية التي ترعرعت في حضن الثورة) والحرس الثوري (ذراع النظام العسكرية وقوته الضاربة).
فلو لم تكن شبكة المصالح «العقيدية» والاقتصادية والسياسية التي تربط أطراف هذا المثلث قوية، لما شهدنا هذه السرعة الفائقة في انهيار الائتلاف المعارض له.
ويتحمّل رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني القسط الأوفر من المسؤولية عن هذا الانهيار . فهذا «الثعلب العجوز» أوهم المعارضة الإيرانية بقيادة مير حسين موسوي ومهدي كروبي في البداية بأنه يقف إلى جانبها في معركتها ضد تزوير الانتخابات الرئاسية وعسكرة الحياة السياسية في إيران.
لكن نزعته المستجدة «للانشقاق» عن نظام الملالي (وقد كان في مقدمة بناته
ومؤسسيه) وملاقاة حركة الاعتراض «الليبرالية» لم تلبث أن تراجعت، بعد انهيار المعارضة تحت وطأة القمع السلطوي الذي حلّ بها من جانب حلفاء رفسنجاني في المثلّث نفسه (الحرس الثوري وميليشيا الباسيج). عندها فقط أدرك الرجل أن ثمن مغادرة الحلف القديم ستكون باهظة للغاية، وستكلّفه خسارة موقعه السلطوي والمالي كرجل ثان في تراتبية النظام الهرمية بعد المرشد، ولن يكون بمقدور حلفائه الجدد المغلوب على أمرهم والملاحقين أمنياً وقضائياً أن يفعلوا له شيئاً سوى الاستنجاد بالدول الغربية وبمنظمات حقوق الإنسان العالمية.
وإذا عطفنا هذه الاعتبارات «القسرية» على الميول الانتهازية والبراغماتية المفرطة التي يتميز بها رفسنجاني نكون أمام نموذج إيراني «للعودة إلى الثوابت»، يشبه إلى حدّ كبير نموذج وليد جنبلاط في لبنان. فهذان النموذجان حاولا في مراحل زمنية متقاربة، التكيّف مع الوضع الناشئ عن انهيار منظومات إقليمية معينة، وحلول أخرى مكانها، لكنهما فشلا في ذلك. وفي الحالتين، كانت «العودة إلى الثوابت» إيذاناً بانتهاء المغامرتين (النيوليبراليتين المتحالفتين مع الغرب)، ومخرجاً ملائماً للتصالح مع النظام وإعادة تثبيته على القواعد الهرمة ذاتها التي تمأسس عليها سابقاً (الحلف الطبقي ــــ الطوائفي في لبنان، والديني ــــ العسكري المنحاز طبقياً في إيران). قد يكون هذا الاستطراد في توصيف بعض الحالات الطارئة على الاعتراض
الهشاشة المجتمعية هي جواز عبور للمتربصين بأمن المجتمعات المستهدفة واستقرارها
الديموقراطي في إيران (وفي لبنان) مفيداً لتظهير حجم المأزق الذي يجد فيه النظام الإيراني نفسه. فإعادة إنتاج التحالف المهيمن على الأسس الانتهازية ذاتها التي قام عليها في الماضي، وإدارة الظهر تماماً لحيويات «نيوليبرالية» غير موالية للغرب بالكامل (لكنها تضمر عداءً مفرطاً لحركات المقاومة في المنطقة)، وإن تكن تحمل بعض الأجندات الاجتماعية ــــ الاقتصادية المختلفة (لا البديلة) عن النسق الريعي السائد، أمران من شأنهما تعزيز الاحتقان في الداخل الإيراني. والاحتقان هنا صنو للهشاشة ومغذٍّ رئيسي لها. والهشاشة المجتمعية تاريخياً هي جواز عبور للمتربصين بأمن المجتمعات المستهدفة واستقرارها. لذا، فإن اللعب على عنصري الهشاشة والاحتقان يغدو تمريناً مثالياً للقوى الغربية، وإحياءً من جانبها لجولة جديدة من الكباش الإقليمي، بعد خسارتها جولات سابقة. جولة قد تكون أسوأ بكثير من جولة الانتخابات الرئاسية الماضية، وقد تضع إيران وجيرانها الإقليميين أمام جملة من الاحتمالات، ليس أقلّها إدخال الغرب إسرائيل على خط التوتر الجديد، وتوكيلها بالنيابة عنه إنهاء الحالة الإيرانية برمّتها (بعض ما نشرته الصحف الإسرائيلية أخيراً يؤكد هذا الاتجاه). وحينها لن تسلم من هذا الحسم العسكري الكولونيالي لا معارضة ولا سلطة، ولن يكون هناك من فرق يذكر بين رأس السلطة القمعية أحمدي نجاد ورأس المعارضة المضطهدة مير حسين موسوي. وهذا يعيدنا إلى جذر المشكلة التي تواجه أنظمة مماثلة لدى عبورها حقبات «انتقالية» طويلة (النظام الإيراني لم يتعدّ هذه المرحلة بعد). وهو جذر يتمثل في السؤال الآتي: ما علاقة جدلية الداخل والخارج بخيارات التصنيع والتنمية المستقلة وإدارة ملفات مصيرية كملف إيران النووي؟
طبعاً لن يحتمل سؤال معقّد كهذا جواباً تبسيطياً شبيهاً بالأجوبة السائدة هذه الأيام. فسؤال الخيارات الاستراتيجية هو سؤال مفتوح على احتمالات متعدّدة، وأسره في قوالب نمطية يسيء إلى فكرة اللبرلة والنقاش الحرّ التي يتشدّق بها البعض. والمؤسف أن معظم التحليلات الواردة في الصحافة العربية (وبدرجة أقلّ الغربية) عن إيران وملفها النووي باتت تعفي نفسها من «ترف» البحث في التناقض الرئيسي، وتكتفي بدلاً منه بترداد عبارات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع. فالمطلوب من إيران اليوم بحسب هؤلاء (النيوليبراليين وأخصامهم على حد سواء) أحد أمرين: إما الإذعان المطلق للغرب وتفادي المواجهة معه والتفرغ تالياً «للتنمية الداخلية» التابعة والمغذية للهيمنة الرأسمالية، أو الاستمرار في المواجهة الدائمة مع الغرب دونما اعتبار للوضع الداخلي الذي يترنّح تحت وطأة الهيمنة الريعية الإفقارية لنظام الملالي. وهي هيمنة كفيلة بتجويف كل الشعارات «الأنتي ــــ إمبريالية» التي يرفعها هذا النظام، ما يعني دفع قطاعات لا بأس بها من الإيرانييين غير المتعاطفين مع أميركا إلى الارتماء في أحضان «الشيطان الأكبر» (طبعاً الدوغما الخمينية لا تميز على عادة الأصوليات الدينية بين النخبة السلطوية في أميركا والشعب الأميركي).
وقد شهدنا ظواهر من هذا القبيل في أكثر من بلد، حيث تنحاز الأغلبية الشعبية المفقرة و«الممانعة» للهيمنة الأميركية إلى جانب الفئات التي أفقرتها. والسبب في ذلك أن هذا التحالف الطبقي المهيمن عليه أميركياً أدار معركته على نحو منظم و«أكثر جاذبية» من مناوئيه الذين فشلوا في استيعاب خزانهم البشري، وتركوه نهباً لأتباع أميركا يفعلون به ما يشاؤون، ويستغلون عوزه وفقره أبشع استغلال. حصل هذا الأمر في لبنان وفي أوكرانيا وفي جورجيا، وكاد أن يحصل في إيران لولا الفضيحة المتمثلة في إعادة تقاسم الكعكة الخمينية وتوزيعها على حراس «نظام الثورة» بالتساوي.
ها هنا يضيع سؤال الخيارات وتتبدّد تماما إمكانية الإجابة عليه، وتسود بدلاً
منهما ــــ أي السؤال والجواب ــــ صورة الهيمنة الإيرانية الخمينية على المشهدين الداخلي والخارجي (وهي صورة مصنّعة ومشغول عليها جيداً). وفي حالات مماثلة يلجأ الإعلام المهيمن إلى إشغال الرأي العام بمشهديتي القمع والتدخّل السلبي في الخليج ولبنان وفلسطين، ويُضيّع بالتالي التناقض الرئيسي المحدّد للمشهد الإقليمي بين إيران والغرب. وقد لعب النظام الإيراني دوراً رئيسياً في تزويد الحالة الإعلامية المهيمنة «بعدّة الشغل» اللازمة لها.
لا يعود من معنى بعد ذلك للكلام الشائع عن الحيوية الإيرانية المفارقة للجمود العربي المحيط. فنظام الملالي في لجوئه المتكرر إلى العنف غدا شبيهاً بالديكتاتوريات العربية، وبحلولها الاستئصالية لما تعتبره «مروقاً» و»خروجاً عن النظام» («كالمروق» في جنوبي اليمن وشماله اليوم وائتلاف نظامي صنعاء والرياض في مواجهة فقرائه). يبقى فارق وحيد بين التجربتين السلطويتين الإيرانية والعربية. فارق كفيل بإبقاء إيران متقدمة خطوات «قليلة» على المشيخات النفطية و«جمهوريات» التوريث المحيطة بها. ويتمثل هذا الفارق في تطوير الجمهورية الإسلامية خلال ثلاثين عاماً من عمرها القصير نمطاً معيناً من «البراغماتية الصلبة» إذا صحّ التعبير. نمط يجمع بين التصلّب في مواجهة الخارج والتخطيط الطويل الأمد لتحويل هذا التصلّب إلى ذخر استراتيجي للقومية الإيرانية الصاعدة، بدلاً من أن يكون «عبئاً عليها»، كما كانت عليه الحال أيام المد القومي العربي في مصر وسوريا وباقي «دول الطوق».
* كاتب سوري