ناهض حتر* أظهرت نتائج الانتخابات الطالبية في الجامعة الأردنية، أقدم الجامعات الحكومية وأكبرها في البلاد، حقائق المشهد الاجتماعي السياسي للأردن الجديد. الانتخابات التي شارك فيها حوالى 20 ألف طالب وطالبة، لم تشهد ترشيحات جدية أو دعاية أو حضوراً للتيارات اليسارية والقومية. أما التيار الإسلامي، الواسع الانتشار منذ أواخر الثمانينيات، فقد انحسرت ترشيحاته وحملته إلى حدود دفاعية، ومُني في الأخير بهزيمة عامة، إذ حصل على 17 مقعداً من أصل 104 مقاعد، بينما حصل تيار فلسطيني أعادت «فتح» تأسيسه أخيراً على 9 مقاعد فقط، فيما حقق مرشحو التحالفات الجهوية والقبلية، أغلبية كاسحة (78 مقعداً).
كيف استيقظت تلك التحالفات العائدة إلى القرن التاسع عشر، وأصبحت أطراً للحراك السياسي لجيل جامعي في عام 2009؟ جيل كان أجداده وطنيين أردنيين من مدارس فكرية مختلفة، شيوعيين وبعثيين وديموقراطيين، وآباؤه تكنوقراطيين متحضرين؟ بل كيف جرى إدماج الفلسطينيين في هذه التحالفات / الصراعات، و«أردنتهم» كإحدى القبائل، أو توزّع قسم آخر منهم بين القبائل؟ أسئلة تعصف بتقاليد الحركة الوطنية الأردنية وأفكارها التي تأسست في مؤتمر عام للمناطق والعشائر سنة 1929، أَعلن انضواءها في دولة وطنية واحدة، وقرّر أن بناء تلك الدولة على أسس مدنية والنضال ضد الصهيونية هما عنوانا الأردن المأمول.
تحالفات وصراعات القرن 19 كان لها مضمون فعلي من التناقض بين الفلاحين والبدو، أي بين نمطي إنتاج متداخلين. فإذا كان الاقتصاد البدوي القائم على الرعي والغزو يتطلب صيانة السيطرة على المراعي وتوسيعها ونهب الفلاحين، فإن الأخيرين كانوا معنيين باستزراع المزيد من الأراضي، وصيانة الفائض الزراعي وتراكم الثروة التي تتحقق نتائجها الحياتية بالاستقرار والتحضّر، وتكوين (أو اجتذاب) فئات مهنية جديدة من التجار والصنّاع، وخدمات جديدة، وتكوين المجتمع الوطني المدني.
على مشارف القرن العشرين، كان الاتجاه نحو انتصار الفلاحين وتكوين المجتمع الوطني المحلي. لكن احتدام الحرب الطويلة على تخوم متداخلة، منع العشائر الفلاحية من الانفراط، فحافظت على تكوينها القتالي وثقافتها السياسية البدوية كسلاح في مواجهة البداوة. وهو ما طبع الشخصية الأردنية بكونها نصف فلاحية ــــ نصف بدوية. أحيت الإمارة الناشئة في سنة 1921 الصراع البدوي ــــ الفلاحي وقمعته في آن. أحيته بتكوين قوة عسكرية ممن ظلوا بدواً وأقرب إلى البداوة، في مواجهة المجتمع المتحضر من العشائر الفلاحية. ولكنها، بالمقابل، استخدمت هذه القوة لضرب النزعات الجهوية والاستقلالات المحلية. وعلى مستوى الإدارة، سعت الدولة الجديدة إلى تكوين بيروقراطية منسجمة يكون ولاؤها الأول للدولة والإدارة.
وعندما نعود إلى حقبة الثلاثينيات والأربعينيات، سنجد أن الإدارة الأميرية والمعارضة معاً، اشتغلتا بصورة مثابرة على تنفيذ مهمة مشتركة هي التوحيد الوطني. من هنا اكتسب العرش الهاشمي شرعيته المحلية.
هذه التركيبة تنفرط الآن إلى مكوّناتها وصراعاتها المسترجعة من ذاكرة القرن التاسع عشر، ولكن بلا أي مضمون راهن، إذ لم يعد لنمطي الإنتاج، الِفلاحي العشائري، والبدوي، أي وجود في ظل بنية رأسمالية كمبرادورية، الصراع الرئيسي داخلها هو بين أقلية تستأثر بالسلطة والثروة، وتعمل على إدارة تنفيذ مشروع الوطن البديل، وأكثرية مُفقَرة ومهمَّشة وتفتقر إلى التنظيم السياسي المضاد.
هناك 5 أسباب رئيسية وراء ظاهرة التفكك الاجتماعي ــــ السياسي الأردني، والفلسطيني في الأردن، هي الآتية:
ــــ أولاً، تفكيك القطاع العام، خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة، في ظل الخصخصة وسيطرة النموذج النيوليبرالي الكمبرادوري، وهو ما أدى إلى غياب الرابط الوطني المتمثل في الدولة الاجتماعية، وانزياحه إلى مركزية الرابط الأمني، حيث لا آليات تضامن مبنية على مصالح إنتاجية واجتماعية وطنية، بل آليات تفتيت مبنية على مصالح فردية لكتل سكانية «فائضة» تتنافس على فتات. وبما أنه لا علاقة ارتباط عضوية بين عمليات الاستثمار الأجنبي المتركزة في حقلي المال والعقارات من جهة، والمجتمع وطاقاته الإنتاجية من جهة أخرى، ارتدّت الأجيال الجديدة المتعطلة والمهمشة واليائسة عن الانخراط في مشروع وطني إلى تطوير ولاءات جهوية وقبلية، طلباً للهوية والحماية والمصلحة.
ــــ ثانياً، وبسبب قصر نظر المتطلبات الأمنية الضاغطة لدرء توسع الإسلاميين أو نشوء معارضة اجتماعية وطنية، شجعت الأجهزة اتجاه الردة الجهوية والقبلية، بينما دعم هذا الاتجاه سياسيون أرادوا من خلاله الحصول على دعم سهل من قواعد مجيّشة وجاهزة.
ــــ ثالثاً، ترافقت هذه التطورات مع فرض قانون انتخابات عامة، سنة 1993، كان هدفه الرئيسي منع التيارات الوطنية، وخصوصاً الإسلامية، من تحقيق حضور في البرلمان والمجتمع والدولة، يعرقل الصلح والتطبيع مع إسرائيل. وجرى بالتالي تصميم القانون على مقاسات الزعامات، والصراعات، الجهوية والقبلية. وفي متوالية هندسية، شهدت الانتخابات النيابية منذ ذلك التاريخ انحداراً في التمثيل السياسي إلى مستوى فتّت القبائل نفسها إلى أفخاذ. وقد انعكس ذلك في تكوين النخب السياسية والإدارية التي اتخذت اللون نفسه.
ــــ رابعاً، بينما كانت عملية التوحيد الوطني حتى السبعينيات تجري على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، كانت هنالك عملية توحيد ثقافي جارية بالقدر نفسه. وقد تراجعت هذه العملية المركزية لإدارة الوعي الوحدوي الداخلي وتعزيزه، وتلاشت، ثم جرى منعها وتجريمها لمصلحة حملات متتالية تسعى إلى تفكيك الهوية الثقافية الوطنية للبلد، للسماح بإدماج اللاجئين وتوطينهم نهائياً. فقد توصّل المعنيون بإدارة ملف التوطين إلى أنه من المستحيل تنفيذ المهمة التوطينية من دون تمييع مكوّنات الشخصية الثقافية الأردنية، وكذلك الفلسطينية، والاستعاضة عنهما

سيكون على النظام الأردني والمعارضة الأردنية معاً، التعامل الصعب مع انقسامات تزداد تصلّباً

بثقافة كوزموبوليتية تحوّل الشعبين إلى كتلة سكانية بلا ملامح. ولكن فشل المشروع، لأن الأردن ليس فضاءً مفتوحاً بلا مجتمع محلي راسخ، وارتد إلى التمسك بالهويات الفرعية التي يمكن إدارتها على مستويات محلية بغض النظر عن إرادة القرار السياسي المركزي.
ــــ خامساً، لكن المفاجأة الكبرى تمثلت في استجابة فلسطينيي الأردن لعملية «الأردنة»، كما ظهر في انتخابات الجامعة الأردنية. فالجديد هنا أن اتجاهاً ظهر بين الطلبة الفلسطينيين/ الأردنيين إلى إدارة الظهر للإسلاميين وللفتحاويين، نحو الانخراط في الصيغة الأردنية لما قبل الدولة. وانعكس ذلك في مثالين: تكوين قبيلة فلسطينية تتفاعل، على نحو مقبول من الطرف الآخر، باعتبارها إحدى القبائل الأردنية، أو اندراج فلسطينيين في التحالفات القبلية الأردنية.
الخلاصة أن السحر انقلب على الساحر. وسيكون على النظام الأردني، والمعارضة الأردنية معاً، التعامل الصعب، بل ربما المستحيل مع انقسامات تزداد تصلّباً، وتعرقل أي مشروع على المستوى الوطني في أي اتجاه، سواء أكان نيوليبرالياً أم وطنياً تقدمياً أم إسلامياً.
أردنيو الجامعة الأردنية لعام 2009 لا يمثلون أردنيي الدولة ولا الحركة الوطنية ولا المجتمع التقليدي، بل يمثلون نسيجاً آخر جديداً لا مناص من درسه وفهم روابطه ودوافعه ومآلات تفاعله مع التطورات اللاحقة تحت الضغوط الاقتصادية لنموذج فاشل، والضغوط الاجتماعية لطبقة جديدة منبّتة الصلة بالدولة والمجتمع، والضغوط الغربية للتوطين السياسي. إن المرء ليندهش من تجاهل النظام، والمعارضة، لاتجاهات «درب اليمن» التي تعصف بالأردن. وهي اتجاهات ربما لم يعد درؤها ممكناً من دون توافق وطني نزيه وفاعل يستلزم صيغة وطنية ديموقراطية لا تزال قيد الأحلام، أو من دون نهضة لحركة ديموقراطية مضادة من الأسفل، لا تزال قيد الفكرة.
* كاتب أردني