حسام كنفانيقبل سنوات، كان الحديث عن التآمر العربي على القضية الفلسطينية علنيّاً، لكن الفعل كان مستتراً. سنوات من الكلام عن اتفاق الكثير من الدول العربية على «تصفية القضية». كلام كانت تبرّره تداعيات وتسريبات عن لقاءات واتفاقات، وانعكاسات على الأرض تُردّ إلى نظريّة التآمر العربي المتحالف مع الأنظمة الغربية.
هذا كان في السابق، لكن الوضع اليوم تغيّر تغيّراً جذريّاً. لم يعد هناك داعٍ إلى إخفاء الأفعال، ولم تعد المؤامرة حكراً على العرب، بل دخلت إليها أيضاً عوامل فلسطينية رسميّة، وعلنيّاً أيضاً. لم يعد من معنى للتستّر، أوراق اللاعبين كلهم باتت مفتوحة على طاولة القضيّة، بانتظار إعلان النتائج وتوزيع المغانم.
«جدار فولاذي على حدود قطاع غزّة». مصر كانت السبّاقة إلى فتح هذه الورقة في وجه مليون ونصف مليون فلسطيني. لم تكتفِ بإغلاق معبر رفح في وجه الهاربين من العدوان الإسرائيلي العام الماضي، لتحصرهم كالفئران في علبة من النار. هذا الحصار لم يرضِ المصريين و«حلفاءهم». لا بد من فعل المزيد. من لم يمت بالعدوان فلا بد أن يموت بطريقة ثانية.
لم يُتعب المسؤولون المصريّون أنفسهم في البحث عن الطريقة الثانية. كان هناك مفكّرون «أصدقاء» في الولايات المتحدة يبحثون الأمر، ووجدوا الحلّ: إغلاق ما بقي من فتحات تهوية تُدخل مستلزمات العيش إلى قطاع غزّة. فتحات عبارة عن سلسلة من الأنفاق بين رفح الفلسطينية ورفح المصريّة، حيث البدو «الخارجون عن رغبات النظام» لا يزالون يتعاملون مع «الأعداء» الغزّاويين.
لم يفلح إغراق الأنفاق في المياه، أو ضخ الغازات السامة عبر فتحاتها، في وقف الفلسطينيّين عن البحث عن «شريان حياة». الوسيلة الجديدة: جدار فولاذي، أميركي الصنع، مصري الجنسية، سيُغرس في قلب امتداد صحراء سيناء المحاذية لقطاع غزة وأراضي فلسطين التاريخيّة المحتلة إسرائيليّاً. التبرير المصري جاهز وقديم، استُخدم وقت العدوان، وها هو يُستخدم الآن مرة أخرى: «شأن سيادي» و«حماية للأمن القومي».
لكن المسؤولين المصريّين لم يشرحوا لنا عن أيّ أمن قومي يتحدثون، وما هو التهديد الذي يترقّبونه. من المؤكد أن إسرائيل غير معنية بالكلام عن الأمن القومي، وخصوصاً أن الجدار الفولاذي يستثني الحدود المصرية مع الدولة العبرية. هو حكر على قطاع غزّة فقط لا غير؛ فإسرائيل «صديقة»، وهناك معاهدة سلام تحكم العلاقة معها، حتى وإن كانت تترك سيناء بأكملها من دون جيش يحميها، لا بأس، الأمن القومي لن يكون مهدّداً. التهديد يأتي من هؤلاء الجياع في غزة. إنهم الخطر بالنسبة إلى النظام في القاهرة، الذي قد يضيف إليهم الشعب الجزائري بأكمله باعتباره أيضاً «تهديداً للأمن القومي».
أمن انتقائي، يسير على هوى النظام ومسيّريه. حتى وإن أعلن أحمد أبو الغيط أن ما يحدث على الحدود شأن مصري، فلن يصدّق أحد أنْ لا أياديَ إسرائيلية وأميركية خلف الاستفاقة المفاجئة على «أمن الحدود». استفاقة تأتي في الذكرى الأولى للعدوان، التي لا بد أن نستذكر خلالها الاتفاق الأميركي ـــــ الإسرائيلي، بين كوندوليزا رايس وتسيبي ليفني، على ضبط التهريب، الذي أعلن بعده أبو الغيط أن لا شأن للقاهرة به. إعلان لم يصمد ليصبح الاتفاق شأن مصر وحدها، على الأقل على الحدود المباشرة مع القطاع، بما أن طائرات وبواخر إسرائيل و«الأطلسي» تجوب البحرين المتوسط والأحمر ومحيطهما لإكمال المهمة.
وإذا كان الأمر شأناً مصريّاً، فإنه لم يعد كذلك بعدما أقحم محمود عبّاس نفسه فيه. هذا الرئيس الممدة ولايته تبرّع للدفاع عن الجدار، باعتباره «أمراً يتعلق بالسيادة المصرية‏»‏. الرئيس الذي من المفترض أن يكون للسلطة الفلسطينية، وما تمثله من أراضٍ في الضفة وغزّة، لم يكترث لتأثيرات الجدار المصري على مليون ونصف مليون فلسطيني، لا يعدّهم عبّاس ربما ضمن حدود سلطته (بفتح السين)، بل ربما عبئاً عليها. والأنكى أن يكون عباس أو بعض مسؤوليه منتفعين من الجدار المصري، على غرار الجدار الإسرائيلي في الضفة الغربية، الذي كان أحمد قريع (رئيس الوزراء السابق) متكفلاً بتوريد الإسمنت إليه.
مصر وعباس كشفا أوراقهما علناً، والإمارات سبقتهما في ترحيل الفلسطينيين المنحدرين من قطاع غزّة عن أراضيها، والباقي لا بد سيأتي. من يتآمر اليوم في السر على الفلسطينيّين عموماً، والغزاويين خصوصاً، لن يطيل الكتمان، فالقاهرة افتتحت لعبة التآمر على المكشوف.
«كم كنت وحدك يا ابن أمّي، يا ابن أكثر من أبٍ، كم كنت وحدك»، صدق محمود درويش.