سعد الله مزرعاني *في مجرى تطوّرات دراماتيكية تسارعت ابتداءً من آذار عام 2005، لم يجد الدكتور سمير جعجع حرجاً في القول أكثر من مرّة، إنّ «الآخرين قد أتوا إلينا ولم نذهب نحن إليهم». كان يجزم بدون تردّد آنذاك، أنّ مواقف «القوات» وحلفائها التقليديّين ثابتة، أمّا المتغيّر فمواقف أطراف كانوا في موقع الحليف لدمشق، أي في موقع التباين والصراع مع سياسات فريق «القوات» وتوجّهاته.
ما جرى في الأشهر القليلة الماضية (قبيل الانتخابات النيابية وبعدها)، أنّ الذين كانوا قد «أتوا إلى القوات»، بدأوا يبتعدون عنها، بهذه النسبة أو تلك، وبهذه الطريقة أو سواها، إلى مواقع أخرى، متباينة مع سياساتها وتوجّهاتها إلى هذا الحد أو ذاك.
معادلة السيّد جعجع كانت تكثّف وتختصر جملة تطوّرات في المنطقة ولبنان قرّرها أو فرضها لاعبون كبار في المستويين الدولي والإقليمي. لا يجوز هنا إنكار الحيوية التي اتّسمت بها حركة المعترضين على سلطة سوريا وحلفائها في لبنان، لكنّ العامل الأكثر تحديداً لمسار الأحداث كان المشروع الذي حصل في نطاقه الغزو الأميركي في ربيع عام 2003 وقبله لأفغانستان في أواخر عام 2001.
والواقع أنّه ابتداءً من أواخر عام 2006 (بعد تعثّر السيطرة الأميركية على العراق) وفشل عدوان تموز الأميركي ـــــ الإسرائيلي على لبنان، بدأت الموازين تتغيّر وتتبدّل لغير مصلحة «القوات» وحلفائها القدماء والجدد في لبنان.
ويمكن أن نشير بسرعة هنا، إلى أنّ العدّ العكسي لتماسك ونفوذ وأكثرية تحالف الرابع عشر من آذار قد بدأ، بالفعل، في أيار عام 2008. يومها تبيّن أنّ توازنات جديدة قد نشأت على صعيد المنطقة ولبنان، وأنّ هذه التوازنات ستترك بصماتها على سلطته ومواقف قواه السياسية وعلاقاتها وتحالفاتها.
ولقد كان ينبغي انتظار نهاية عام 2008 أي فشل أهداف العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة وشعبها ومقاومتها، لكي يدرك من لم يدرك بعد، أنّ مشروع «الشرق الأوسط الكبير» قد سقط إلى غير رجعة، وأنّ كلّ ما كان قد بُني عليه من حسابات وتوازنات ومعادلات سيسقط هو الآخر، طال الوقت على سقوطه أم قصر.
لا تقع زيارة رئيس الحكومة الجديدة السيّد سعد الحريري، إلى دمشق، خارج هذا السياق. إنّها ثمرة التقارب السوري ـــــ السعودي. بتحديد أكبر هي ثمرة تحوّل في الموقف السعودي أكثر ممّا هي تحوّل في الموقف السوري. وهذا التحوّل اضطراري بالتأكيد، لكن تبقى المفاجأة في مكان آخر. فلقد كان البعض في فريق 14 آذار (أي من بقي منه) يراهن على أن تكون الزيارة لرفع العتب السعودي والسوري. المفاجأة كانت في الحرارة التي طبعت الزيارة.
تصحيح علاقات لبنان مع سوريا يجب أن يبدأ بتصحيح العلاقات بين اللبنانيين أنفسهم
وهي حرارة تعدّت السياسي حتى إلى الشخصي. وهي بذلك أطاحت كلّ التقديرات بشأن كونها زيارة مجاملة مفروضة وآنيّة النتائج. أكثر من ذلك فإنّ البعض يعتقد عن حق أنّ معادلة حكم كاملة ونسبياً مديدة في لبنان هي ما سينجم عن هذه الزيارة. وهذه المعادلة تستعيد في بعض ملامحها الأساسية مرحلة الوالد الشهيد رفيق الحريري، لجهة عناصر الدعم الخارجي وصيغة التحالفات الداخلية.
لا يُخفي السيّد جعجع وفريقه في أمانة 14 آذار والبطريرك الماروني نصر الله صفير استياءهم من كلّ هذا المسار الذي أشرنا إليه. حزب الكتائب بعد البطريرك يلجأ إلى التهديد والتصعيد. لقد تحوّل الوضع تحوّلاً دراماتيكيّاً. الأكثرية أصبحت في مكان آخر. ومجلس الوزراء لم يعد صورة تعكس النتائج الشكلية لانتخابات حزيران الماضي. إنّ ملامح السلطة في لبنان وتوازناتها رسمتها تبدّلات وتغيّرات جدية وأساسية طرأت على الوضعين الإقليمي واللبناني. وهذه تركت السيّد جعجع شبه وحيد، إلّا من بعض الذين تأبى عليهم مبدئيّتهم الصارمة (!) والجديدة التخلّي عن مواقف أو مواقع أو مكاسب اتخذوها أو ظفروا بها في مرحلة نجاحات «ثورة الأرز» وعلاقاتها الأميركية والعربية والإقليمية.
لكنْ للموضوع جانب آخر هو غير ذلك الذي يجعل السيّد جعجع يكابد الآن الإحباط والارتباك والخيبة. إنّه موضوع العلاقات اللبنانية ـــــ السورية نفسها.
فهذه العلاقات بلغت مستوى من التعقيد الذي لا يجوز اختصاره في ما آلت إليه العلاقات السورية ـــــ السعودية، ولا العلاقات بين «تيار المستقبل» والسلطات السورية، التي وُجّهت إليها اتهامات عدائية وحادّة ومتحدّية باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري.
وتقتضي المقاربة الجديدة والسليمة، لعلاقات لبنان بسوريا، البدء بمعالجة علاقات اللبنانيين في ما بينهم بالدرجة الأولى. فتصحيح علاقات لبنان مع سوريا يجب أن يبدأ بتصحيح العلاقات بين اللبنانيين أنفسهم. عنينا بذلك ضرورة إصلاح النظام السياسي اللبناني عبر تحريره من الطائفية السياسية، على الأقل، وفق ما نصّ عليه دستور «الطائف». وليس هذا فقط، بل إنّ على اللبنانيين الذهاب إلى حوار جدي ومنتج ومسؤول من أجل التفاهم على بعض الأمور الأساسية التي لا يجوز أن تبقى موضع انقسام بين قواهم السياسية الرئيسية. وهذه الأمور تتناول موقع لبنان في الصراع مع العدو الإسرائيلي. فمن هنا يجب أن يبدأ البحث بالاستراتيجية الدفاعية وبسياسة دفاع وطني تميّز بين العدوّ والصديق والشقيق، وتضع إمكانات لبنان الرسمية والشعبية في خدمة هدف واحد، هو تحرير ما بقي من أرض محتلة، ومنع العدو الصهيوني من تجديد إجرامه ضدّ الشعب البناني.
هذا الحوار اللبناني ـــــ اللبناني الذي يجب أن يدور داخل مؤسسات السلطة (أي في مجلسي النواب والوزراء) وخارجها، أي في لجنة الحوار الوطني، يجب أن يُفضي أيضاً إلى الاتفاق على الحدّ الأدنى من الإصلاح السياسي، وخصوصاً عبر قانون انتخاب يعتمد النسبية، ويتحرّر من القيد الطائفي وفق ما نصّ عليه الدستور.
إنّ إقرار ما تقدّم هو الأساس السليم والضروري لبناء وحدة وطنية توفّر حدّاً أدنى من القدرة على صياغة العلاقات الخارجية وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية اللبنانية. وهذا طبعاً موضوع جهد كبير يجب أن تنخرط فيه إلى الحدّ الأقصى القوى الديموقراطية اللبنانية، أي القوى المعترضة على النظام الطائفي، والساعية إلى بناء بديل له يقوم على المساواة بين المواطنين في دولة قانون ومؤسسات وحريات وأمن واستقرار.
لكن يبقى أيضاً أنّ الطرف السوري مطالب هو الآخر بمراجعة تجربة علاقاته في لبنان. إنّ خطأ البعض في التمسّك بسياسات مرحلة ما بعد الانسحاب السوري لا يدانيه نسبياً إلا تمسّك البعض الآخر في استعادة مرحلة ما قبل ذلك الانسحاب.
إنّ لسوريا دوراً أساسياً في رسم علاقة تعاون شامل مع لبنان، يزول معها الحذر السوري حيال قيام وضع طبيعي منه، وتزول في سبيلها كلّ نزعات الاستتباع. لقد أشار الرئيس السوري غير مرّة إلى عدد من الثغر، والأحرى أن يتكرّس ذلك في نهج وسياسة راسخين ومكرّسين في المؤسسات والعلاقات، وفي أفضل صورة ممكنة.
ما بين مخاوف السيّد جعجع وهواجس البطريرك الماروني وانتهازية آخرين، يحتاج الواقع الراهن إلى ثورة حقيقية من أجل بناء علاقات سليمة مع الشقيقة سوريا، تبدأ بتصحيح العلاقات بين اللبنانيين أنفسهم بالدرجة الأولى.
* كاتب وسياسي لبناني