ورد كاسوحة*مرّة أخرى يدفع الفقراء ثمن التسويات الفوقية والمفروضة بقوة التوافق الإقليمي. فالمهزلة التي أودت بحياة أكثر من خمسين عاملاً سورياً قبل أربعة أعوام ونيّف تتكرر اليوم، وإن على نحو «أقل تراجيدية». وكما انتقلت أساليب الاعتداء وإيصال الرسائل الدامية من طور إلى آخر، كذلك الحال مع ضحايا هذه الرسائل. فالضحية اليوم لها وجه واسم وبطاقة تعريف (اسمها الكامل عبد الله عيّاد بن عوّاد)، بخلاف ضحايا عام 2005. ومن تابع التقرير الرصين الذي أعدّته مراسلة قناة الجديد عن الحادثة يعرف عن أي وجه واسم وبطاقة نتحدث. وهذه الرّصانة في التعاطي الإعلامي مع حوادث مماثلة قلّما نجدها في لبنان وفي غيره من الدول التي تستحكم بها نزعات العنصرية والعداء «للأجانب». فتاريخ مقاربة الإعلام اللبناني المهيمن «لتراجيديا» العمالة السورية هو تاريخ تزويري بامتياز. ذلك أن التعاطي مع تلك الفئة المحرومة والمضطهدة لم يكن يحصل (إعلامياً) إلا من الباب الأمني، تماماً كما يحصل اليوم مع اللاجئين الفلسطينيين. فـ«السوري» و«الفلسطيني» لا يملكان بحكم «غيريّتهما» ترف الظهور «إعلامياً» بغير المظهر الذي تريده السردية اللبنانوية المقيتة: أي مظهر المتورّط في القلاقل الأمنية وفي تعطيل العجلة السياسوية الرديئة في هذا البلد. وهو مظهر مصنّع أسهم في تفكيكه وفضح تناقضاته الراحل جوزف سماحة في إحدى مقالاته الأخيرة (مقالة «ميشال كيلو»).
وقد ركز جوزف في هذه المقالة على اختزال الحالة السورية في لبنان وتقزيمها إلى حدود اصطلاح رمزي ذات وجهة كيدية («السوري»). اصطلاح قد لا يعني شيئاً بالنسبة لغير السوريين واللبنانيين، لكن وضعه في سياق التصويب على شكل الوجود السوري السابق في لبنان يخلق حالة من التزوير غير الأخلاقي. وغالباً ما يلقى هذا التزوير صدى لدى المواطن اللبناني البسيط لأنه يساعده في تصدير العجز الذي يشعر به إلى الخارج. والخارج هنا هو «السوري» (العامل) في أكثر تمثلاته ضعفاً وهشاشة. فمن عانى لسنوات من التسلّط الأمني الشقيق لا يعود يهمّه التمييز بين المواطن السوري البسيط الذي أتى لبنان ليعيل عائلته ويقيها شرّ الفقر، وضابط الاستخبارات الذي كان ينكّل بالحالة الاعتراضية على الوجود السوري (الأمني والعسكري) في هذا البلد!
هنا يأتي دور «النخب» التي يفترض بها أن تقيم الحدّ بين هذين المستويين، وتضع مواطنيها في صورة هذا التقنين الممنهج. طبعاً لم يحصل هذا الأمر، لأن هذه «النخب" استساغت على ما يبدو المنطق الريعي الفاسد الذي سيّر الحقبة السابقة للخروج السوري (رغم تبجّحها بمقاومته)، وأرادت أن تعمّمه ثقافياً على الحقبة الجديدة. لذا، كان من الطبيعي أن تستعيد على نحو مقلوب سياسات قامعيها، وتتخلى عن واجبها الطبيعي تجاه ضحايا الحقبة الجديدة: العمال السوريون.
فباستثناء المناشدات التي أطلقها الراحل سمير قصير في ساحة الشهداء، وأراد عبرها تحييد العمالة السورية عن فائض العنف اللفظي الذي انطوت عليه شعارات «ثوار الأرز»، لم نر أثراً آخر لأي حساسية آذارية تجاه أولئك العمال، ولا حتى استنكاراً لأعمال القتل التي طالتهم عقب تظاهرة 14 آذار! واللافت في الأمر أن سقوط مرتكزات ذلك المشروع لم يحمل جموع «المثقفين الاستقلاليين» على تقديم أي مراجعة لسلوكهم السابق. فكما غضّوا الطرف في طورهم «الاستقلالي» عن ضحايا عجلتهم «السيادية»، كذلك يفعلون اليوم في طورهم «الواقعي» مع أولى ضحايا عجلة التسوية. يبدو أنه الثمن الذين يتعين على الفقراء تقديمه لقاء الدفع بعجلة «الاستقرار» و«النمو» و«الازدهار» إلى الأمام. أليست هذه المصطلحات هي ذاتها التي سيّرت طاحونة الرأسمالية طيلة عقود من الزمن، وسوّغت لها العبور على جثث ملايين الفقراء في العالم؟
* كاتب سوري