عصام العريان *تواكب ذكرى الحرب على غزة ثلاثة أحداث وقضايا ذات دلالة واضحة:
الأول، إعلان تحالف من المنظمات المعنية بحقوق الإنسان أن العالم كله يشارك فى حصار غزة وتجويع أهلها، بصمته عن الحصار الذى تفرضه إسرائيل، وكذلك بإغلاق معبر رفح. وشارك الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر بمقال صارخ يدعو فيه إلى إنهاء ذلك الحصار الظالم. وقد سبق لكارتر زيارة غزة، متحدّياً الحصار، بينما يمنع العدو أي زيارات أخرى، كما حدث مع دبلوماسيين أتراك وأوروبيين.
وواصل البرلماني البريطاني الشجاع، جورج غالاوي، زياراته إلى غزة مع قوافل «شريان الحياة»، رغم كل المعوقات التى تضعها مصر الرسمية في طريقه، وها هو عالق فى ميناء العقبة منذ أيام. بل تشجّع آخرون ووصلوا إلى غزة، ولم يأت من العرب إلا السوريون، فيما يمنع المصريون، بل يحاكمون بسبب دعمهم غزة، وأمامنا عدّة اعتقالات كان آخرها ما سمّي «التنظيم الدولي»، وعلى رأس المعتقَلين د. عبد المنعم أبو الفتوح. وما زالت قضية خلية حزب الله منظورة أمام محكمة أمن الدولة العليا (طوارئ)، والتهمة الرئيسية فيها تهريب السلاح والرجال إلى غزة لدعم المقاومة. وسبق ذلك أيضاً، قضية د. عبد الحي الفرماوي، أستاذ التفسير المتفرغ بالأزهر، والتي كان الاتهام فيها صنع طائرة صغيرة لتهريب المال والسلاح إلى غزة.
الحدث الثاني، تطورات صفقة الجندي «شاليط»، الأسير منذ أكثر من 3 سنوات في غزة، وقد فشلت كل المحاولات الصهيونية لتحريره، وكان آخرها تلك الحرب المجنونة. ورغم وصول اليمين المتطرف بقيادة نتنياهو إلى السلطة، استمرت الوساطة، وعندما ظهر أن الوساطة المصرية تخلط الأوراق بين المصالحة المتعثرة والإفراج عن شاليط، دخل على الخط وسيط ألماني ناجح وله خبرة سابقة في التوسط بين حزب الله والعدو الصهيوني.
وقد أثبتت حماس كفاءة عالية، سواء فى عملية الخطف والأسر نفسها، ثم فى إخفاء مكان الجندي المأسور، وفي النهاية في إدارة عملية المفاوضات والصبر الطويل والتمسك بإطلاق ألف أسير، منهم قيادات وأصحاب أحكام عالية مؤبدة وزعامات سياسية من الفصائل الأخرى، مثل مروان البرغوثي وأحمد سعدات، وهو ما يعوق إتمام الصفقة حتى الآن.
الثمن الذي تطلبه حماس غالٍ جداً، وهي استثمرت الضغوط الشعبية الإسرائيلية، والفشل الذي واكب كل الضغوط السابقة. وكان آخر استطلاع رأي في إسرائيل أظهر أن 57% من الناس هناك هم مع دفع أي ثمن، أي إطلاق سراح التسعة الذين يعوقون إتمام الصفقة. وأبدت حماس موافقة على ترك الحرية لهؤلاء التسعة لاختيار المكان الذي يعيشون فيه بعد تحريرهم، وعدم فرض مكان عليهم.
إذا نجحت الصفقة تكون حماس قد حررت 10% تقريباً من الأسرى الفلسطينيين، وحققت إنجازاً كبيراً.
مصر هي التي في وضع حرج وليس أهل غزة. والتعلّل بوقف تهريب الأسلحة إلى داخل مصر هروب من مواجهة الاستحقاقات القومية
وهذا ما دفع محمود عباس إلى نفي تهمة إعاقة الصفقة عن نفسه والسلطة. إنجاز الصفقة يُضاف إلى إنجازات أخرى لحماس، منها بدء حوارات هادئة مع الأوروبيين وفتح قنوات مع النرويجيين، ويُقال أيضاً مع الأميركيين، والاحتفاظ بدعم شعبي كبير في غزة ومعقول في الضفة، وهدوء في العلاقات العربية، وتميّز في العلاقة مع سوريا وإيران وتركيا، وتماسك في قيادتها بالخارج والداخل، وشعرة معاوية مع مصر، رغم كل الرفض والاستفزاز من الإعلام ورجال لجنة السياسات الذين يكرهون حماس وسيرتها. أما محمود عباس، فيواجه انهيارات متتالية في شعبيته، ويسعى حلفاؤه العرب بقيادة مصر إلى استمرار الدعم الأوروبي له. وقد أعلن عدم ترشحه للرئاسة، بينما احتفظ بموقعه رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية التي أعلنت تمديد رئاسته للسلطة إلى أجل غير مسمى، وهذه مناورات بهلوانية الهدف منها هو الهروب من الاعتراف بالفشل.
الحدث الثالث، هو جدار العار الفولاذي بين مصر وغزة، والذي تسربت أخباره عن طريق صحيفة هآرتس الصهيونية، ويتم بناؤه بتمويل ودعم فني وإشراف بل وتنفيذ أميركي لمنع التهريب من خلال الأنفاق بهدف إحكام الحصار على غزة كي يركع شعبها وتلين حماس في مواقفها، أو يثور الشعب
عليها.
وقد تضاربت التصريحات المصرية حتى كان تصريح الوزير أبو الغيط: أن مصر من حقها أن تفعل أي شيء، البناء فوق الأرض أو تحت الأرض، وحتى الجدران الفولاذية، وليس من حق أحد أن يسائلها أو يحاسبها. خفّف المتحدث الرسمي باسم الخارجية من وقع تلك التصريحات العجيبة بقوله إن مصر لا تهدف إلى معاقبة حماس، وهو كالمريب يقول خذوني.
ويردّ خبراء التهريب بأن من المستحيل وقف التهريب من خلال الأنفاق، ويتم تسريب أنباء عن وقف العمل بالجدار الفولاذي بعد اعتراض حماس وتظاهرات الفلسطينيين أمام بوابة صلاح الدين. فعلى لسان مسؤول مصري لم تسمّه، نقلت صحيفة الشروق المصرية (23-12): «نحن لا نتوقع أن يكون هناك اجتياح فوري، لكننا نخشى أن يحدث ذلك الاجتياح في أي لحظة. الوضع حرج».
مصر هي التي في وضع حرج وليس أهل غزة، والتعلل بوقف تهريب الأسلحة إلى داخل مصر حجة فاشلة غير حقيقية، وهروب من مواجهة الاستحقاقات الوطنية والقومية في دعم صمود المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، وخاصة بعد فشل المفاوضات واتفاق أوسلو، واتضاح عدم القدرة على منع المقاومة بعد 13 سنة من مؤتمر مكافحة الإرهاب في شرم الشيخ الذي فرضه كلينتون على مصر.
إذاً، أصبح الفلسطينيون محاصرين بين جدارين: الأول بناه شارون فى الضفة الغربية لمنع العمليات الفدائية المنطلقة من فلسطين ضد الاحتلال، ولم ينجح إلا بعد قتل عرفات وتسليم السلطة لعباس وفياض وغسل مخ الأجهزة الأمنية الفلسطينية وبناء ما يُسمّى الفلسطيني الجديد، كما وصفه الجنرال كيث دايتون، حين باتت قوات أمن فياض وعباس تطارد المقاومين والأبطال من كل الفصائل، بما فيها فتح، وتردد الحجة نفسها عن منع وجود سلاح غير شرعي، أي سلاح المقاومة. والجدار الآخر هو ما شرعت مصر في بنائه تحت الأرض بالفولاذ لمنع تهريب الغذاء والدواء إلى غزة، ومعه كل وسائل الحياة التي تتدفق عبر الأنفاق التى وصفتها تقارير الأمم المتحدة بأنها شريان الحياة. ولو أن مصر تريد حقاً وقف التهريب غير المشروع، أو منع تدفق الأسلحة على غزة، ولو أن ذلك غير أخلاقي، لفتحت معبر رفح وضبطت دخول الأفراد والبضائع كما تفعل كل نقاط المرور من وإلى مصر.
مصر بحاجة إلى المراجعة الأمينة لعلاقتها مع أميركا والعدو الصهيوني، بعدما فشلت في حصار سوريا وأفلتت منها ملفات المصالحة الفلسطينية، وتتردد في قرار العودة إلى علاقات طبيعية مع إيران، وتعود بخجل إلى العراق، وتحاول الاحتفاظ بعلاقاتها في الخليج الذي يعاني من مشاكل مالية واقتصادية وحدودية.
لماذا إذاً يشارك حكامها في تهديد أمننا الوطني، مرة مع الجزائر، وأخرى مع فلسطين وغزة، وثالثة بإهمال السودان. أليس فيكم رجل رشيد؟
* عضو مكتب الإرشاد
في جماعة الإخوان المسلمين بمصر