حسام كنفانيفي الأيام الأخيرة لعام 2009، عام الجمود التفاوضي، عادت الحياة لتدبّ قليلاً في «مسار التسوية». حراك متسارع الخطى، إسرائيلياً وفلسطينيّاً، على أكثر من محور وفي أكثر من اتجاه. حراك لا يبدو أنه يخرج عن غاية إعداد الأرضية للعودة إلى طاولة التفاوض، رغم العناوين الكثيرة التي تخرج عنه.
محمود عبّاس في القاهرة، تلاه بنيامين نتنياهو، قبل أن ينتقل الأول إلى الرياض. الحديث العلني في هذه الزيارات تمحور حول ثلاثة ملفات تستأثر حالياً بواقع الحال الفلسطيني: عملية التسوية وصفقة الجندي الأسير جلعاد شاليط والمصالحة الفلسطينية. ملفات يجهد عبّاس، ومعه القاهرة، لإظهار أن الكلمة لهما فيها، رغم أن الواقع مختلف تماماً. واقع يُظهر أن أبو مازن و«الدور المصري» يقفان موقف المتفرجَين أمام المتغيرات من حولهما في هذه الملفات، التي من الواضح أنهما لا يملكان كلمة الحل والربط فيها.
لنبدأ من صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل و«حماس». أبو مازن لا يفوّت مناسبة للحديث عن مفاوضات الصفقة، رغم إقراره بأنه لا يعلم شيئاً عنها. لكنه دائماً ما يسعى إلى الظهور بمظهر الحريص على شعب القطاع والعدوان عليه، ليربط بين مئات الشهداء الذين سقطوا خلال العدوان الأخير على غزّة وبين أسر الجندي الإسرائيلي. مقارنة غير منطقية، لكنها قد تكون ضرورية لإبقاء عبّاس «على قيد الملف».
الأمر مشابه بالنسبة إلى القاهرة، فالأخيرة لم تعد معنيّة بالملف إلا اسميّاً. ومهما جرى من حديث بين الرئيس المصري حسني مبارك ورئيس الوزراء الإسرائيلي، فإن الملف بات بعهدة وسيط ألماني مع رعاية «شرفية» غير ناجعة للقاهرة، التي قد يقتصر دورها، في حال إتمام الصفقة، على احتضان إجراءات التنفيذ، حرصاً على «الدور التاريخي» لمصر في الملف الفلسطيني. ومن المؤكّد أن مبارك ونتنياهو لم يبدآ منذ الآن مناقشة إجراءات التنفيذ، ولا سيما أن مصير الصفقة في يد رد «حماس» على العرض الإسرائيلي، الذي لا تملك معه القاهرة إلا الانتظار.
ملف المصالحة الفلسطينية لا يختلف كثيراً عن قضيّة شاليط. القاهرة وعباس لا يملكان تجاهه أيّ قدرة تعديل جوهرية، إلا إذا أرادا التوافق على تبديل الورقة المصرية. تبديل مستبعد جداً، ولا سيّما أن أبو مازن وجد في رفض «حماس» التوقيع فرصة للتنصّل من استحقاق إنهاء الانقسام، على اعتبار أن الاستحقاق لم يكن مرضياً عنه أميركياً ولا إسرائيلياً. كرة المصالحة في ملعب «حماس» وحدها، التي كان يجدر بها، إذا أرادت اختبار جديّة «فتح»، المضيّ على هدي الورقة المصرية، ولو مؤقتّاً.
في كل الأحول، فإن ملف المصالحة لم يكن ضمن جدول المباحثات المتنقلة بين القاهرة والرياض، على اعتبار أن هاتين العاصمتين، إضافةً إلى رام الله، لا تملك الكثير لتفعله تجاه هذه القضية، التي لا يبدو أنها تحتل الأولوية، لا بالنسبة إلى الداخل الفلسطيني ولا إلى العواصم العربية.
لم يبقَ إلا ملف عملية التسوية. ملف يتقدّم على كل ما سواه في المرحلة الحالية، بناءً على رغبات أميركية لا يمكن ردها. أيضاً وأيضاً، لا يملك عباس، ومعه القاهرة والرياض، تجاهه الشيء الكثير، إلا التراجع عن الشروط التي وضعها رئيس السلطة والتحقت بها الدول العربية. المؤشرات كلها تدل على أن هذا ما سوف يفعله أبو مازن، بمباركة من محجّتي الزيارات، حتى وإن أبقت في العلن على الكلام عن ضرورة تجميد الاستيطان قبل العودة إلى طاولة التفاوض.
على هذا الأساس، بات من الممكن فهم حركة الزيارات المستعجلة التي طرأت على جداول أعمال القاهرة والرياض. زيارات تمهيدية لم هو آتٍ، ولا سيما أنّ وزير الخارجية المصري أبدى إعجابه «بالمواقف التقدميّة» لرئيس الوزراء الإسرائيلي. لم يبلغنا أحمد أبو الغيط بماهيّة هذه المواقف، لكن التعبير قد يكون كفيلاً في المرحلة المقبلة بتبرير العودة إلى العملية السياسية بناءً على «التقدميّة» الإسرائيلية.
الانفتاح المصري على نتنياهو لا يمكن أن يكون إلا بالتنسيق مع محمود عباس، الذي من المؤكّد أنه انتقل إلى الرياض للتشاور في شأن المعطيات الجديدة. معطيات لا شك أن العاصمة السعودية غير بعيدة عنها، وخصوصاً في ما يتعلق بموضوع رسالة الضمانات الأميركية المستجدة على ملف عملية التسوية، بعدما جرى الاتفاق عليها بين واشنطن وتل أبيب.
زيارات ولقاءات ومشاورات تصبّ في خانة إحياء العملية السياسية، التي يبدو أن عبّاس لا يستطيع العيش من دونها. عملية تمثّل في الأساس مبرر وجود أبو مازن على رأس هرم السلطة الفلسطينية، لأنه لا يحسن غيرها وفشل في كل ما سواها. حتى إنه لن يفلح في البقاء معتصماً فوق شجرة شروطه، بعدما بات معزولاً عن سائر الملفات القائمة على الساحة.
أبو مازن سينزل عن الشجرة، وتبقى مطالبه فوقها. ولن يطول الوقت قبل أن يدشّن عام 2010 بموقف «نعم للتفاوض»، بعدما طبع 2009 بكلمة «لا»، التي لم يعتد كثيراً على قولها، إلا في مواجهة حركة «حماس». أبو مازن سينزل و«سيترك الشجرة وحيدة».