فتح الإعلامي الرصين، جاد غصن، في برنامج خاص عن الإعلام في «تحت طائلة المسؤوليّة»، ملف الإعلام اللبناني والإحباط الذي يمكن أن يصيب كل مَن يعمل فيه. وغصن الذي ينتمي إلى مدرسة الجديّة في الإعلام والابتعاد عن المسرحيّة التي تصيب الإعلام المكتوب والمرئي على حدّ سواء ــ وهذه ليست الآفة الكبرى في الإعلام ــ حاول أن يخرج موضوعه في إطار من الدراميّة المُسليّة، ما أضرّ بمقاصده في تسليط الضوء على مشاكل الإعلام اللبناني.
والاستعانة بخبير نفسي لم تكن مجدية، لأن ذلك أضفى مسحة من الخفّة على موضوع بالغ الجديّة، خصوصاً أن غصن وغيره من الإعلاميّين المهنيّين (الذين يأخذون المهنة على محمل الجدّ) يعانون فعليّاً من مشاكل الإعلام اللبناني. ليس معروفاً سبب انتقاء غصن لبعض الإعلاميّين دون غيرهم (هو قال لي إنه كان يريد مشاركة إعلامي من «المنار» غير أن ذلك لم يتيسّر). لكن البرنامج كان مناسبة لبحث مشاكل ومعاناة بعض الإعلاميّين، فيما يسرح بعض الإعلاميّين والإعلاميّات ويتمتّعون بثمرات إعلام بات رمزه عوني الكعكي وإلياس عون. لا، ليس كلّ مَن يعمل في الإعلام يعاني من متاعب المهنة: هناك من ابتنى قصوراً له من وراء العمل في الإعلام ومن وراء عرض الساعات النفيسة والعطايا العزيزة على الشاشة.
لم يكن الإعلام اللبناني قدوة للإعلام في العالم العربي، أو لم يجب أن يكون. الإعلام اللبناني أصبح مميّزاً وفاعلاً في حقبة ما بعد الحرب فقط بسبب ضخ المواهب الفلسطينيّة فيه، وضخ السفارات النفطيّة المال فيه. كذلك فإن الإعلام الكويتي (قبل عام ١٩٩٠) كان يتمتّع مثل الإعلام اللبناني بفائدة المساهمة الفلسطينيّة فيه. ودور السفارات في الإعلام اللبناني لم يجعل منه إعلاماً ممتازاً، بل مسليّاً ومتنوّعاً بفعل التنوّع في التمويل وتعدّد السفارات المهتمّة بالرعاية الحنونة. وهذا التنوّع في التمويل فتح منابر عدّة في الإعلام وقدّم للقارئ والمشاهد أصواتاً مختلفة تتوافق مع كل التيّارات والأهواء الحزبيّة والأيديولوجيّة. لم يكن هناك إعلام أبعد من، أو ما فوق السفارات، بل كان هناك إعلام مُموّل من السفارات لكنه يوحي بأنه مختلف، وهذا الادعاء هو الذي جعل من «النهار» في حينه جريدة ناجحة. وكانت كلمة «موضوعيّة» تنطلي آنذاك، وهي لا تزال، مع أنها ليست أكثر من ستار غير واق للتبعئة الحزبيّة والأيديولوجيّة. لا بل إن كلمة «موضوعيّة» هي بالضبط الذريعة التي تقدّمها الوسيلة الإعلاميّة شرقاً وغرباً للتغطية على انحياز ما. تختبئ «نيويورك تايمز» وراء الموضوعيّة في تسويق انحيازها الفاقع للعدوّ الإسرائيلي، كما الإعلام العربي المُموّل من أنظمة خليجيّة متحالفة مع العدوّ الإسرائيلي باتت تنظّر لحيادها نحو القتل الإسرائيلي، أو انحيازها له، بلغة الموضوعيّة.

إن الفساد في
الإعلام اللبناني ليس أمراً جديداً، بل هو عريق بعمر التاريخ اللبناني


خدعة أو وهم الموضوعيّة مرّ في البرنامج المذكور من غير قصد المُعدّ عندما استشهد بخطبة عن الإعلام للصحافي الأميركي الشهير، إدوار أر مورو، من شبكة «سي بي إس» (والخطبة هي جزء من فيلم لجورج كلوني عن الرجل). وإدوار مورو أصبح أسطورة في أميركا ــ وفي خارج أميركا بسبب دعاية أميركا عن نفسهاــ. وساهمت شركة «سي بي إس» (حيث عمل مورو فيها لسنوات) في الترويج لأسطورة مورو وذلك لأسباب تجاريّة محضة. واللافت أن غصن يذكّر رامز القاضي في حديثهما بأنه شاهد اسم مورو في مركز للصحافة أثناء دورة في أميركا، وهذا مفهوم لأن الولايات المتحدة في الدورات التدريبيّة التي ترعاها تروّج لنفسها بنفسها، وذلك لتقديم صورة مغايرة عن نفسها للعالم. إن الخطبة التي ألقاها مورو عن تدهور الإعلام التفلزيوني جاءت في آخر حقبة عمله مع «سي بي إس»، كذلك فإن مورو هذا ساهم في الإعلام السطحي عندما قدّم على شاشة الشبكة نفسها برنامج مقابلات مع مشاهير. والبرنامج الوثائقي الذي قدّمه مورو عن السيناتور ماكارثي، والذي يُعتبر خطأً أنه هو الذي ساهم في إسقاط هالة ماكارثي المخيفة، أتى متأخراً جدّاً. ومن الضروري لكلّ مَن يسمع بإدوار أر مورو أن يتذكّر أنه بعد أن غادر «سي بي إس» عمل مديراً للهيئة الدعائيّة الرسميّة للحكومة الأميركيّة، «وكالة المعلومات الأميركيّة»، وهي التي أشرفت على «صوت أميركا» في سنوات الحرب الباردة وكانت أداة الدعاية السياسيّة للحكومة. لدينا نماذج في العمل الإعلامي العربي أفضل بكثير من مورو هذا، مثل غسّان كنفاني وشفيق الحوت وناجي العلي.
لكن غصن ظلم زملاءه في المهنة عندما جعل كل الإعلاميّين والإعلاميّات سواسية. إن الفساد في الإعلام اللبناني ليس أمراً جديداً بل هو عريق بعمر التاريخ اللبناني المُعاصر. وليس صحيحاً أن صحافة ما قبل الحرب اللبنانيّة كانت أفضل أو أنقى من صحافة اليوم. على العكس، كانت صحافة ما قبل الحرب مرتهنة بالكامل للطبقة السياسيّة الحاكمة، وكان المراسلون والمراسلات، كلّ في موقعه (في القصر الجمهوري ومجلس النوّاب والسراي الحكومي والوزارات الفاسدة)، يقبضون إكراميّة في آخر الشهر من المسؤول، وكانت مقالاتهم تأتي في مصلحة المسؤول. لم يشذّ عن تلك القاعدة إلاّ الصحافة الأيديولوجيّة (اليساريّة والقوميّة العربيّة) آنذاك، وهي نادرة هذه الأيّام. أما اليوم، وعلى الرغم من الرشاوى ومن زيادة منسوبها في المرحلة الحريريّة عندما كان نهاد المشنوق، أو هاني حمّود بعده، يوزّع النقود المعدودة على الفريق الإعلامي المُرافق للحريري، فإن هناك إعلاميّين وإعلاميّات شباباً نزيهين وهم يأخذون المهنة على محمل الجدّ. لكن غصن في الاعتراض التعميمي وفي مساءلة فريق متنوّع من الإعلاميّين والإعلاميّات لم يميّز بينهم وخلط بين النزيه وبين غير النزيه، وبين المهني وبين غير المهني، فطمس المشكلة تحت عناوين التعميم التعتيمي.
لقد أضعف غصن من جديّة التقرير ومن مقصده ومصداقيّته عندما وجّه نوع الأسئلة نفسها إلى كل الإعلاميّين، بصرف النظر عن أدوارهم وعن مواهبهم وعن توافقهم. لماذا لم يوجّه أسئلة محدّدة تتعلّق بعمل كل إعلامي وإعلاميّة؟ (لم يفعل ذلك إلاّ عرضاً على ما بدا لنا). كيف يمكن أن يتحدّث إلى إعلاميّي «إم. تي. في.» من دون ذكر وثيقة السفارة السعوديّة عن طلب العوْن المادّي مقابل خدمات سياسيّة؟ هذه الوثيقة أهم من كل الأحاديث الجانبيّة، ومن دون الاعتراض العام غير المحدّد عن مشاكل الإعلام. لماذا تغاضى عن المشاكل الأساسيّة لللإعلام، مثل سيطرة أصحاب المال والسفارات على كل الإعلام اللبناني؟ أليست هذه الطامة الكبرى التي يتفرّع منها كل مشاكل الإعلام الأخرى؟ هل لأن توجيه مثل هذا النوع من الأسئلة عن التمويل المُستتر لكل وسائل الإعلام من محرّمات كل وسائل الإعلام من دون استثناء (المكتوب والمرئي والمُذاع)؟ وهذه المشكلة عن التمويل تتقاطع مع مشاكل الإعلام الغربي، لكنها تختلف عنها كون تمويل الإعلام الغربي (الخاضع بالكامل لأصحاب المليارات والشركات العملاقة الكبرى) مكشوفاً وشفافاً، فيما تدخل ملفات تمويل الإعلام العربي في دهاليز أكاذيب الأنظمة العربيّة وإيران.
لماذا لم يسأل غصن إعلاميّة أو إعلامياً عن العلاقة بين الإعلاميّة أو الإعلامي وبين رجل السياسة وعن الـ»خوش بوشيّة» التي منحت نهاد المشنوق ووائل بو فاعور (صاحب الإعلان الأسبوعي الدوري عن إغلاق مطاعم ودكاكين) من التغطية ما لم تمنحه لغيرهما؟ كان الصحافي العريق في «واشنطن بوست» يرفض بالمبدأ إقامة أي علاقة اجتماعيّة بين المراسل والمسؤول. أين نحن في لبنان من هذا المبدأ، والمسؤول يتضاحك في الإجابة عن الأسئلة مع المراسلة والمراسل، أو «يلطّش» المراسلة لو رآها؟
وكيف سمح جاد غصن للنرجسية بأن تطغى في مقابلة مع إعلاميّة حوّلت الحلقة من بحث جدّي في موضوع الإعلام إلى عرض لحياديّتها عبر أسوأ الحجج (التي يستخدمها الإعلامي اليميني، بيل أورايلي، في محطة «فوكس»)، أي القول إنها حياديّة لأنها تتلقّى نقداً من الطرفيْن. هذا النوع من الدفاع عن النفس لا يحظى إلا بالسخرية، خصوصاً أن قائلها يكون في حالتها وحالة أوريلي في شبكة «فوكس» واضح الوجهة في الانحياز وسافِرها. وهي الإعلاميّة نفسها التي وجدت أن مشكلة الإعلام اللبناني ليست في الأنظمة التي ترعاه ولا في الفساد المالي ولا في الانحياز السياسي ولا في السطحيّة في التغيطة، بل في الجمهور نفسه. كيف يتحدّث غصن عن الموضوعيّة مع إعلاميّة انتحبت على الهواء تفجّعاً على وسام الحسن (الموضوعي، طبعاً) أو مع إعلامي عرض مخطّطه على تويتر لتقسيم لبنان، أو مع إعلاميّة كادت في حرب تمّوز أن تصفع محمّد فنيش محمّلة إيّاه مسؤوليّة عدوان إسرائيل، أو مع إعلاميّة تصنّف الجمهور تصنيفات طبقيّة وطائفيّة؟
إن معاناة جاد غصن هي حقيقيّة، ولكنّ حلّها ليس نفسيّاً، بل يكمن في تشخيص المرض السياسي العضال الذي ينخر في عضد جسم الإعلام العربي برمّته. دار وحار غصن حول لبّ المشكلة لكنه ابتعد عنها. جوزفين ديب، وهي من أفضل المحاورات والمحاورين في الإعلام اللبناني، والتي ــ لو كانت رجلاً ــ لكان لها برنامج حواري أسبوعي، كانت صادقة في اعترافها وعميقة في طروحاتها (خصوصاً حول تغطية «الحقيقة» عن الفساد): إن حالة الإعلام لا تستحق الدخول فيها، وإنها ما كانت ستدخل في المجال لو علمت ما تعلمه الآن. لا يُلام الشاب والشابة في العالم العربي على هجر حقل الإعلام. ليس هناك من مهرب من سطوة النفط أو الغاز، وكذبة «البورجوازيّة الوطنيّة» لم تعد تنطلي.

هناك مشاكل أخرى
مثل الإثارة والسعي
إلى زيادة نسبة
المشاهدة أو القراءة


لم يسأل غصن عن الالتزام السياسي الصارم للإعلام: حتى جريدة «النهار» في الستينيات كانت تسمح لآراء متعدّدة بعض الشيء فقط، وضمن حدود خط الجريدة اليميني الرجعي الطائفي، لكن العمل الإعلامي بات أشبه بالإعلام الحربي: كل عامل وعاملة في الوسيلة الإعلاميّة يشعر أن الالتزام هو قضيّة، وأن الدفاع عن خط الوسيلة هو جزء من المهنة (قد تكون هذه الجريدة استثناءً، إذ إنها تفتح صفحاتها للمختلفين في الرأي وللذين يختلفون مع خط الجريدة وبعضهم مع بعض). ولم تُزد وسائل التواصل الاجتماعي المشكلة إلا تفاقماً، إذ إن الإعلاميّين والإعلاميّات باتوا أكثر صراحة في المجاهرة بمواقفهم السياسيّة والطائفيّة، ما يخندقهم في صفّ متراص. كيف يمكن للمشاهد أن يقبل بتغطية مراسل أو مراسلة بعد أن انضم في الفضاء التواصلي إلى فريق مقاتل؟ وماذا يفعل العامل والعاملة في محطة عندما يقرّر صاحب محطة ــ كما حدث أخيراً ــ تبنّي قضيّة ما ــ ولأسباب خاصّة به ــ وما على العاملين والعاملات إلا الانقياد والطاعة؟ وماذا عن تغيّر توجّهات الصحافي بمجرّد انتقاله من وسيلة إعلاميّة إلى أخرى؟ ماذا عن صحافي أيّد حزب الله في وسيلة إعلاميّة موالية للحزب ثم عارض حزب الله في وسيلة إعلاميّة معارضة للحزب؟ هل هذه من الصدف اللبنانيّة الشهيرة؟
وحسناً فعل غصن أنه خصّص فقرة في الحلقة لموضوع المرأة والشكل، لكن لم يتعامل مع الموضوع بالمنظار النسوي، فأتت التغطية ذكوريّة حتى من فم إعلاميّة أثنت على جمال مذيعات «إم. تي. في.» وكادت تقول إن جمال المحطة هو ذكي، بينما جمال (إعلاميّات) محطات أخرى هو غبي. لكن المشكلة هذه بدأت في محطة «إل. بي. سي.» التي بادرت قبل غيرها إلى تسليع المرأة وإلى التعامل معها على أنها جسد ووجه فقط حتى في قراءة نشرة الأخبار، وبصرف النظر عن المواهب والقدرات. لم يتطرّق البرنامج إلى التفاوت في قبول الأعمار بين الرجال والنساء: يستطيع الرجل أن يشيخ أمام الكاميرا (يحدث هذا دوماً في أميركا) بينما تفسد المرأة مع ظهور أوّل تجعيدة على وجهها. ولماذا لم يفصل غصن في مسألة عرض الأزياء والتباهي الجمالي (ومعايير الجمال نسبيّة طبعاً) بين بعض ــ بعض وليس كلّ ــ الإعلاميّات وكيف أن بعض الإعلاميّات يساهمن في تنمية الحس العنصري الذكوري (غير المهني) في حكم الذكور من المشاهدين؟ ولماذا لم يسأل عن المنافسة غير المهنيّة (الصوَريّة) بين بعض الإعلاميّات؟ إذا كانت سيمون دو بوفوار نبّهت إلى الذكوريّة الدفينة في النساء، فإن نقد الذكوريّة لا يقتصر على ثقافة الذكور دون النساء، أو تعليقات «فايسبوكهنّ».
فات الحلقة الكثير من الحديث المُحدّد. كان يجب أن يحتل عوني الكعكي وما يمثّل في الصحافة اللبنانيّة والعربيّة موقع الصدارة. فات الحلقة أن تتحدّث عن مشاكل خاصّة بالإعلام اللبناني: مثل ميشال المرّ وأنطوان شويري والأقلام المُتنقّلة بين خندقيْن في زمن قصير. فات الحلقة ذكر اسم رفيق الحريري الذي كان في لحظة ما يموّل (بالكامل أو جزئيّاً) كل الصحف في لبنان. فات الحلقة التصدّي لمشاكل خاصّة بالإعلام اللبناني: سمير قصير أو جهاد الخازن كانا يستحقّان قسماً خاصّاً بهما. الجيل السابق في الإعلام مسؤول عمّا أورثه من مصائب وفساد للجيل الحالي من الإعلاميّين والإعلاميّات.

كذلك فإن المشكلة أن الرصينين والرصينات في الإعلام اللبناني، بما فيهم هذه الحلقة، يتعاملون مع الإعلام (المُجرّد والغربي خصوصاً) بكثير من السذاجة والآمال. لا، ليس الإعلام سلطة رابعة، وهذه الصفة أتت في سياق تاريخي مُحدّد (وقد نسب توماس كارليْل أصل العبارة إلى إدموند بيرك خطأً) وهي لا معنى لها في النظم السياسيّة الحديثة، حيث طُوِّع الإعلام وبات ثمن إصدار مطبوعة أو إطلاق فضائيّة خارج متناول ٩٩٪ من السكّان. لم تعد الصحافة كما كانت: سهلة الإصدار والتوزيع في الحارات والساحات العامّة. كذلك فإن قدرة الصحافة على التأثير بولغ فيها كثيراً وأصبحت فضيحة «ووترغيت» مثالاً غير صالح لسلطة الصحافة. لم تُسقط الصحافة («واشنطن بوست») ريتشارد نيكسون: النظام السياسي الأميركي هو الذي أسقطه، لأنه خرج عن حدود المعقول (وثبت هذا بعد أن أُعلنت هويّة مصدر بوب وودورد وتبيّن أنه كان مسؤولاً في مكتب التحقيقات الفدرالي ــ أي إن النظام لم يعد يحتمل وجود نيكسون). إن قدرة الصحافة على إسقاط الحكومات يجب أن تخضع لمتغيّرات الصحافة والنفوذ العالمي الذي يمتلكه رجل مثل روبرت موردخ، أو برلسكوني في إيطاليا الذي ثار على الإعلام الليبرالي فابتاع ــ كما الحريري ــ إعلامَه.

هناك مشاكل أخرى مثل الإثارة والسعي إلى زيادة نسبة المشاهدة أو القراءة، لكن هذه ليست مشكلة بحدّ ذاتها، لكنها جزء من مشكلة أكبر تتعلّق بالضغط من أصحاب المال ــ مالكي المحطّة ــ من أجل زيادة الربح، أو هي تتعلّق بالضغط من السفارة أو النظام الذي يسعى إلى منافسة محطّة أخرى لنظام عدوّ أو خصم. لو أن الإعلام بقي كما كان ــ ولن يعود ــ في أيد قليلة أو أيدي عائلة واحدة (ثريّة في معظم الأحيان) لكان الضغط أو السعي نحو الربح أقل بكثير. لكن الإعلام اليوم يزداد اندماجاً، وحتى المواقع الاخباريّة والمدوّنات باتت تخضع لحساب السوق، وقد تكون تجربة «هافنتغون بوست» القطريّة الهوى والمبتغى نموذجاً سيّئاً آخر لتجميع عدد من المدوّنين الذين يدورون في فلك نظام واحد. إن الأخطار المحدقة بالإعلام في لبنان والبلاد العربيّة تزداد، خصوصاً أن عواصف الحزم تعتمد على الإعلام بقدر ما تعتمد على القنابل والصواريخ الغربيّة المصدر.
إن معاناة جاد غصن حقيقيّة، لكنه أخطأ العنوان في طلب العلاج. لو أنه استجوب الصحافيّين والصحافيّات الذين يمثّلون إعلام الفساد وسألهم مباشرة عن الفساد، لكان توصّل إلى خلاصة نافعة له ولنا. لو أنه قصد محاورين يتلقّون مظاريف من ضيوفهم وسألهم عن ذلك لكان ذلك أنفع لنا. للفساد وجوه عديدة، والفساد السياسي يولّد فساداً إعلاميّاً، والحملة الجديدة ضد الفساد من قبل بعض وسائل الإعلام لا يُركن إليها من دون الخوض في جوانب الفساد الإعلاميّة. إذا كان الإعلام الرقيب لا يراقب نفسه، فمَن يراقبه؟ الجمهور الذي تشكو منه الإعلاميّة التي وردت في الحلقة؟
ليس هدف الإعلام التغيير أو الإصلاح. ليس هناك من إعلام مُجرّد. نصل إلى فهم الإعلام ودوره متى تخلّصنا ممّا علق في أذهاننا من خرافات عن الإعلام الموضوعي والحيادي من دروس الجامعة. الإعلام صوت تيّارات سياسيّة، والتيّارات السياسيّة هي تعبير عن الصراع الطبقي في المجتمع، وإن تغلّف بصراعات الطوائف. لكن إقحام السفارات الأجنبيّة في كل صراعاتنا نتيجة حسن ضيافة لبنان للتدخّل متى كان ثريّاً وسلطويّاً، يشوّه من الوعي الاجتماعي. مشكلة جاد غصن ليست خاصّة به: هي مشكلة كل إعلامي نزيه وكل قارئ لا يريد من الإعلام أن يهين ذكاءه. لكن القدرة على التمييز بين الإعلام والإعلان لم تعد واردة في عصر السيطرة الماليّة الفاقعة. قد يكون الحلّ باللجوء إلى الفضاء التدويني، لكن يبدو أن النظام القطري يريد أن يستحوذ على هذا الفضاء أيضاً. أين يهرب الإعلامي وأين يهرب المشاهد؟ قيل إنه تم العثور على مياه في كوكب المرّيخ. بانتظار العثور على الكلأ على أرضه.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)