سعد اللّه مزرعاني*لم يكفّ اتفاق الطائف الموقّع قبل عشرين سنة، عن أن يكون مادّة سجال طوال هذه المدّة. حصل ذلك ليس فقط بسبب البنود غير المطبّقة منه، بل أيضاً وأساساً، بسبب البنود المطبّقة وكيفية تطبيقها. ما طُبّق وما لم يُطبّق خضع لموازين القوى أكثر ممّا خضع للنصوص وللبنود المقرّة. للتذكير، فإنّ هذا الاتفاق قد حمل اسم المدينة السعودية التي استضافت المشاركين فيه. وهو كان اتفاقاً حظي برعاية عربية ودولية، كما حظي بموافقة أو بمشاركة داخلية، لم يُستثنَ منها إلا رئيس الحكومة العسكرية آنذاك، العماد ميشال عون، الذي تداخل سعيه الشخصي إلى موقع الرئاسة الأولى مع بعض تحفّظاته على بنود أساسية في الاتفاق.
النقاش في الاتفاق عموماً، أو في الذكرى العشرين لإقراره خصوصاً، هو نقاش في تعقيدات الوضع اللبناني المثقل بالأزمات التي يكاد بعضها يصبح مستعصياً على الحل. لا بأس، بل لا بدّ، أوّلاً، من أن نشير إلى العناوين الأساسية لمسيرة «الطائف» في المنطلقات، قبل الوصول إلى الخلاصات والنتائج.
ثمّة عنوانان رئيسيان في الاتفاق المذكور. أوّلهما علاقات لبنان مع الخارج. وثانيهما، علاقات اللبنانيين في ما بينهم. في الموضوع الأوّل، وفي ظلّ ظرف محكوم بموازين القوى الداخلية والإقليمية والدولية، تمّ الاتفاق على اعتماد اتفاق الهدنة مع العدوّ الإسرائيلي المقرّ عام 1949، كما تمّ تأكيد حقّ شعب لبنان في استخدام كلّ أشكال المقاومة لاسترداد أرضه إذا رفض الصهاينة الانسحاب من لبنان بموجب القرار الدولي 425 الذي يطالبهم بذلك من دون شرط أو تأخير. ومعروف أنّ المقاومة قد حسمت لاحقاً طبيعة العلاقة مع العدو، من خلال فرض الانسحاب عليه. لكن يجب التذكير بأنّ الولايات المتحدة الأميركية، الشريكة في رعاية اللقاء آنذاك، قد تخلّت عن تعهّداتها بإخراج إسرائيل من لبنان.
أما في العلاقة مع سوريا، وهي الدولة الثانية أيضاً الأكثر انخراطاً في الصراع في لبنان وعليه وفي مجمل الصراع الدائر في المنطقة، فقد أوكلت إليها، بموافقة عربية ودولية، مهمّة المساعدة الأمنية والسياسية في إنهاض مؤسّسات الحكم اللبنانية، وصولاً إلى تفويض شبه كامل لها بذلك، بعد مشاركتها في «التحالف الدولي» الذي قادته واشنطن لإرغام القوات العراقية على الانسحاب من الكويت في صيف عام 1990. أكد الاتفاق إقامة علاقات مميّزة بين سوريا ولبنان. إلا أنّ هذه العلاقات قد جرت صياغتها بالكامل تقريباً، من قبل الطرف السوري، وبطريقة غير متوازنة لجهة أنّ النفوذ السوري في لبنان قد تحوّل إلى عنصر حاسم في تقرير شؤون البلاد وفي الحلول محلّ المؤسسات اللبنانية أو في تحديد أو توجيه الأساسي من قراراتها.
وفي العنوان الثالث الذي وضعناه تحت بند العلاقة بين اللبنانيين، فقد تضمّن الاتفاق عناصر مهمّة لمعالجة الخلل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري في النظام السياسي الطوائفي اللبناني. وكانت أبرز البنود ذات الصلة: تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية. اعتماد اللامركزية الإدارية ومبدأ الإنماء المناطقي المتوازن. إنشاء مجلس دستوري كخطوة أساسية على طريق قيام سلطة قضائية مستقلة. إنشاء المجلس الاقتصادي ـــــ الاجتماعي كعنصر أساسي في تشخيص أزماتنا الاقتصادية وفي اعتماد سياسة تضامن اجتماعي لإنهاض الاقتصاد وإشاعة شيء من العدالة الاجتماعية. إقرار سياسة دفاعية تمكّن الدولة من أن تعبئ الطاقات الرسمية والشعبية في مواجهة العدو وفي بسط سلطة الدولة على الأراضي اللبنانية كلها.
أؤكّد هنا أنّ هذه هي العناوين الأكثر شمولية وموضوعية وأساسية، لتحديد ماهية الطائف في نصوصه ومنطلقاته وتوازنات تلك المرحلة التي سرعان ما تغيّرت كثيراً في عناصرها الفاعلة.
ولكي تكتمل معالم الصورة يجب إضافة أنّ اتفاق الطائف قد مثّل نقطة تقاطعت فيها ومعها مواقف دولية وإقليمية رغم تنوّع، بل تباين، الأسباب والأهداف القريبة والبعيدة. فالولايات المتحدة كانت ترغب، كما قيادة المملكة العربية السعودية ومصر وإسرائيل، في احتواء العنف اللبناني المنفلت من جهة، وفي تقديم «جزرة» للقيادة السورية تُصرفها عن الصراع العام مع إسرائيل، من جهة ثانية. أما سوريا فكانت ترى أنّ إمساكها بالوضع اللبناني، سيوفّر لها، على العكس، نفوذاً إقليميّاً، ودوراً أمنياً ضاغطاً على واشنطن وتل أبيب، تعويضاً لميزان قوى عسكري تقليدي مختل في غير مصلحة سوريا، بشأن السعي من أجل استرجاع الجولان السوري المحتل.
الأطراف اللبنانية من جهتها، كانت تتقاطع حول ضرورة التخلّص من الحرب الأهلية التي طالت وتفرّعت إلى حروب داخل كلّ جبهة من الجبهتين «الشرقية» و«الغربية». لكنّ هذه الأطراف بالطبع،
الولايات المتحدة الأميركية، الشريكة في رعاية اللقاء آنذاك، تخلّت عن تعهّداتها بإخراج إسرائيل من لبنان
كانت، تتباين، حول المكاسب التي يمكن أن يحقّقها كلّ طرف وفريق، أو حول الأثمان التي يجب أن يدفعها ويجعلها في الحدّ الأدنى منعاً لإحداث خلل كبير في توازنات الوضع اللبناني.
لهذه الأسباب ولسواها، استمرّ الصراع في لبنان وعليه، وإن بوسائل أخرى. وكان تطبيق الطائف ومنحاه وأولويات التطبيق أو الحذف، موضوع نزاع حقيقي. ما استقرّ عليه الوضع هو التفرّد السوري مع بعض الشراكة السعودية في الشأن الاقتصادي. وفي التوازنات الداخلية برزت معالم هيمنة بديلة، لم تتراجع إلا بعد الانسحاب السوري في 26 نيسان من عام 2005.
تجدر الإشارة هنا إلى مسألة كانت موضع إجماع بين كلّ الأطراف المحليين والإقليميين: إنّها تعطيل وإهمال البنود الإصلاحية الأساسية في «اتفاق الطائف»، وخصوصاً منها إلغاء الطائفية السياسية التي اعتبرتها مقدّمة الدستور «هدفاً وطنياً كبيراً»، وحُدّدت لها آليات تنفيذية في المواد 22 و24 و95 من الدستور.
مرّة جديدة تحوّل المؤقّت (في المادة 95) إلى دائم! ومرّة جديدة تراجعت فرص الإصلاح، بل الإنقاذ التي يحتاج إليها لبنان واللبنانيون، وتحديداً عبر التخلّص من النظام الطوائفي.
قبل التعديلات التي أُقرّت بموجب القانون الدستوري في 21/9/1990 كان رئيس الجمهورية يتمتّع بصلاحيات مطلقة. لكنّ ذلك لم يمنع اندلاع الأزمة بسبب التناقضات والانقسامات التي تولدها الامتيازات الطائفية. وفي ظلّ المساواة العددية في المجلس النيابي استمرّ الأمر وتفاقم. صمام الأمان لا يمكن أن يكون إذاً في النظام الطائفي الراهن مهما كانت التوازنات التي تتحكّم بمجريات تطبيقه. ولقد أثبتت ذلك أيضاً تجربة ما بعد عام 2005: لقد حلّت إدارة ـــــ وصاية جديدة محلّ القديمة، لكنّ النزاعات تعاظمت بالتفاعل مع الوضعين الداخلي والإقليمي. وكانت النتيجة حرب تموز الإسرائيلية ـــــ الأميركية على لبنان عام 2006، وحرب الشوارع والمؤسّسات عام 2007 ــ 2008 التي كادت في السابع من أيار 2008، أن تتحوّل إلى حرب أهلية شاملة.
لقد شقّ الطائف أساساً جيّداً للانتقال نحو دولة المساواة بدل دولة الصراعات والانقسامات والامتيازات. وُضعت فيه أسس جديدة لبناء دولة قانون ومؤسّسات على حساب دويلات الطوائف والمذاهب التي استشرت إلى درجة مخيفة و(خصوصاً ارتباطاً بمشروع التفتيت الأميركي ـــــ الصهيوني للمنطقة).
التعامل الانتقائي مع اتفاق الطائف كان ولا يزال مصدر الخلل الأوّل في المسار الذي استمرّ عقدين والذي انتهى إلى الأزمة الراهنة.
لا سبيل للإصلاح في النظام الطائفي. يجب التخلّص منه، على الأقل عبر تطبيق بنود «اتفاق الطائف» التي أصبحت بنوداً ملزمة في الدستور اللبناني، وبدءاً بقانون انتخابات يعتمد النسبية والدائرة الموسّعة.
دور القوى اللبنانية هنا، لا يُستبدل. وستتحمّل هذه القوى مسؤولية إنقاذ البلاد من عصبيات وفئويات وارتهانات هذه القوى نفسها، أو دفع البلاد والعباد نحو الخراب والضياع!
* كاتب وسياسي لبناني