محمد بنعزيز*بعد النكبة، كان الشاب الفلسطيني يعتبر مشكلته صغيرة، ستُحلّ سريعاً بإلقاء إسرائيل في البحر، وسيعود اللاجئون يوماً إلى أحيائهم. كان يتوقع أن تعيده الحرب إلى الوطن، والانتصار رهن بلحظة الحرب. هذا ما رسخه الإعلام المصري في ذهن الفلسطينيين. بعد «النكسة»، أعلن نزار قباني بخيبة «بالناي والمزمار، لا يحدث انتصار»، ثم استخلص «كلفنا ارتجالنا خمسين ألف خيمة جديدة».
كيف ينشأ المخيم؟ أرض خلاء تنصب عليها خيام، لأن الفلسطينيين سيعودون إلى الوطن بعد 15 يوماً. بعد ذلك، يبدأ البناء بالأحجار والسقف بألواح الزنك. حباً بالفلسطيني، ولكي لا ينسى وطنه، تمنعه بعض الدول العربية الشقيقة من البناء والتملك. بعد مرور 15 عاماً صار البناء بالإسمنت والحديد... في السويد. ما إن نجا الفلسطيني من الذين يحبونه ميتاً حتى تفرقت ضلوعه، وتمطط حنينه إلى رائحة الخبز في الفجر. بعد «النكسة»، أدرك الشاب أن المشكلة أكبر، وأن المقاومة هي البديل للتحرير. بهذه الفكرة، لجأ إلى المغرب عام 1969 وكان في التاسعة عشرة من عمره. وكان قد نزح عن مخيم النصيرات جنوب غزة حيث ولد، وسابقاً نزحت أسرته من بئر السبع في 1948. مر بالأردن ثم حصل على البكالوريا في مصر.
حين وطئت قدماه أرض المغرب، كانت نسبة الأمل لديه بالعودة إلى فلسطين تبلغ 100%. في انتظار ذلك، أتاحت له المسافة الجغرافية اكتشاف محيطه وتأمل تل الزعتر من بعيد. وبعد 40 سنة من اللجوء المؤقت، يقدم الرجل الفلسطيني هنا تأملاً لرحلته، في حوار عميق ينبش في الأوجاع، وقد أصر محدثي ألا أذكر اسمه، وأنا أحترم طلبه، وأقدر فتح قلبه لسبر شريط الذكريات اللافحة والضاربة في الزمن.
يرى الرجل أن فلسطين بالنسبة للمغاربة قضية وطنية ومشتركة، ويعلن أنه ليس شرطاً أن تكون فلسطينياً لتدافع عن فلسطين، لأن أناساً من كل الشعوب تبنوها، تعاطفُ المغاربة معنا دائم، يعاملونني باحترام، فاحترام الشخص جزء من احترام القضية، يُنظر للفلسطيني كملاك تتجسد فيه العفة وعليه أن يتصرف كذلك، مما يفرض عليه سلوكات معينة، الناس يندهشون، بل يستغربون إن شاهدوا فلسطينياً يضحك أو يحضر عرساً، يصفق أو يغني، هذه إسقاطات تفرض عليه حزناً أبدياً وكأنه ليس على هذه الأرض ما يستحق الحياة... هذا التعاطف والتوقع العالي اللذان يكبلان الفلسطيني هما ما دفع محمود درويش ليستنجد «إرحمونا من هذا الحب القاسي». بفضل هذا الحب الذي صار عبئاً، تحمّل الفلسطيني مرور السنوات كالشفرة في اللحم الحي، ثم وجد عزاءً لنفسه: «لا نعيش في أوطاننا لكن أوطاننا تعيش فينا».
هكذا بدأ الرجل التعايش مع المؤقت الممدد، ثم جاءت الصدمة الكبرى في حياته بعد «النكسة»: صبرا وشاتيلا. اعتبرها علامة عار في تاريخ العالم العربي، لم يتخيّل أبداً أن تصل درجة الإجرام الهمجي لهذا المستوى... كانت صبرا وشاتيلا حدّاً فاصلاً بين جانب الإبداع وجانب فعالية الإبداع. هكذا اعتبر أنه انتهى دور الشعر وغابت الإنسانية، وفي لحظة رد فعل عصبية أحرق أشعاره، واعتبر أن ما يمكن أن نقدمه لفلسطين هو الشهادة... بعد أيام من ذلك انتحر الشاعر اللبناني خليل حاوي، استسلم لموسيقى المسدس. لكن ما اعتبره الفلسطيني قمة الهمجية لم يكن إلا محطة في سلسلة المجازر والصدمات المتوالية: الانتفاضات (1 و2...) قانا (1ــــ2)، حرب لبنان (1ــــ2)، حرب غزة (1ــــ16)... مجازر لا تتوقف وكلها مجازر بعضها أبشع من بعض. يقارن: في بلدان كثيرة يضيع طفل فتقيم وسائل الإعلام الدنيا، كما حال الطفلة الإنكليزية التي اختفت في البرتغال، إسرائيل تقايض جندياً واحداً، واحداً، بـ11000 أسير فلسطيني، 11000 من يعرفهم؟ يستنتج: في حالة ذبح الفلسطينيين، لا تحقيق ولا محكمة دولية. ويتساءل: كيف سيعبر الفلسطيني من مجزرة إلى أخرى؟
صدمة أخرى: تغير السياق الدولي، انهار الاتحاد السوفياتي، انشغلت الأنظمة العربية بقضاياها الداخلية واستفحلت الأزمات الاقتصادية. لذا كان دخول أبو عمار عملية السلام خياراً تكتيكياً لا تنازلاً. ثم صدمة أخرى: ساءت وضعية الشتات الفلسطيني بعد حرب العراق، لأن أي بلد عربي هو عمق للقضية الفلسطينية. وشبّه الرجل تفكك العراق بصبرا وشاتيلا، خرج الفلسطينيون من المنطقة وابتعدوا عن تراب الوطن ورائحته، ذهبوا إلى الغرب حيث البعد والإحباط والتخلي عن العروبة، وافتقاد الشحنة القومية والدينية. وعبّر عن دهشته من عجز بلدان العالم الإسلامي من المغرب حتى إندونيسيا عن احتضان الفلسطينيين.
سألت محدثي: هل تعتبر صراع الفصائل الفلسطينية صدمة من ذوي القربى؟ أبداً، إنه تعبير عن تحول، الآن انتهت مرحلة الآباء، أبو عمار وأبو مازن وأبو اللطف... ودخلنا مرحلة المسميات الشخصية: عريقات وفياض ودحلان... التحولات صعبة، وأي حركة أو حزب ليس كتلة واحدة بل فيه تيارات، ما يجري اليوم بين الفصائل الفلسطينية هو صراع للتمسك بخيار المقاومة، رفض التوطين والتمسك بالوطن.
ما الدليل على صدق هذا التحليل؟ بقاء الجرح الفلسطيني مفتوحاً بعد 60 سنة. وفي كل المحطات فشل الرهان على تراجع الفلسطينيين، لأنه رهان مبني على قراءة غير واعية للتاريخ. الفلسطينيون هم من يمسك بأجندة المنطقة على الأرض، مهما خطط الساسة في مكاتبهم. الفلسطيني الآن أكثر استيعاباً للواقع العربي، كثيرون اعتبروا اتهام القدومي لعباس غنيمة لنهش الجسد الفلسطيني.
ثمّة إسقاطات تفرض
على الفلسطيني حزناً أبدياً وكأنه ليس على هذه الأرض ما يستحق الحياة
سألته: وكيف سيتحقق حلم العودة حين يُنهش الجسد الفلسطيني؟ أجاب محدثي المتعاطف مع حركة فتح: الجسد الفلسطيني لا يُنهش، وأي ضربة تقوي الفلسطيني، وهو الآن أقوى مما كان عليه. حين أتأمل الوقائع اليومية، أشعر بأن الرجل واهم، ولكن حين أتأمل قوانين التاريخ ودروسه، يظهر أن رؤيته عميقة وبعيدة. والمدهش أنه ليس لديه ذرة شك واحدة في ما يقول. غيرت نبر الأسئلة لإضاءة الزوايا المعتمة: منذ أربعين سنة وأنت تحمل الخيمة فوق رأسك، وتصور لي ذلك كنزهة؟ بل هي لحظات قهر مقطّرة، يوماً بيوم، كل حدث أسوأ من الآخر. بكيت باستمرار، وخاصة في لحظات قاسية أحسست فيها أن عرباً ينتظرون قراءة الفاتحة على روح الفلسطينيين.
لماذا لا تريد نشر اسمك؟ لأني واحد من الشعب، وحالتي تنطبق على الآلاف، ولا شيء خصوصياً ليرتبط باسمي.
هذا خبر قبل النكسة عن المذيع المغوار أحمد سعيد على أثير إذاعة «صوت العرب» يدعو الفلسطينيين لحزم حقائبهم استعداداً للعودة إلى أرض الوطن. أما زلت تحلم؟ حلْمنا ــــ قال مستخدماً ضمير الجمع ــــ حلمنا تغيرت ظروفه، لكنه لم يخْبُ. لا يعقل أن يبقى الفلسطينيون في المخيمات إلى ما لا نهاية. حلم العودة رهان تاريخي أساسه أن موازين القوة تتبدل. من توقع صمود حزب الله أو ظهور إيران كقوة نووية؟
لا شيء يقلقك إذاً؟ يقلقني أمران: الأول، يتابع الإسرائيليون الحياة الثقافية العربية عن قرب، يترجمون كتبنا إلى العبرية، العرب لا يتابعون ما يجري في إسرائيل. في أواسط السبعينيات، أثبت استطلاع أن 75% من الطلبة العرب لا يعرفون وزيراً إسرائيلياً واحداً، بل إن شيخ الأزهر صافح شمعون بيريز في 2009، وعندما انتقدته الصحافة رد بأنه لم يعرف أن الرجل هو رئيس إسرائيل! وقد عبر محدثي عن إعجابه بأسلوب مقالات بيريز وإنْ كره مضمونها الصهيوني. استخلصْ: «من أبجديات الصراع أن تعرف عدوّك». الثاني: يغيب الإبداع عن تناول القضية الفلسطينية، مثلاً السينما، فمنذ تحويل رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» إلى فيلم «المخدوعون» لتوفيق صالح، لم تظهر أعمال دالة. الآن يحتاج الشعر الفلسطيني طاقات جديدة بعد رحيل درويش. أؤكد على دور الإبداع، والرواية خاصة، في تجنيد المخيلة لتصمد. لقد لعبت الرواية الصهيونية دوراً كبيراً في استقطاب اليهود لتحقيق حلم العيش في أرض الميعاد، رواية وهمية لعبت دوراً تاريخياً خطيراً. قلت: أليس السلام هو الحل؟ لدي فرضية: لو قبل الفلسطينيون غداً الانضمام إلى إسرائيل كمواطنين ببطاقات هوية وحرية تنقل، فإما سترفض إسرائيل العرض الكريم وتتمسك بجدار العزل، أو ستزول فتمّحي فوراً. قال: ربما يعرف الإسرائيليون هذا الاحتمال، لذا فاز اليمين المتطرف في الانتخابات الأخيرة. فاز اليمين، وسيفوز، كيف ستعود إذاً؟ «إن لم نعد الآن فسيعود أحفادنا حين يصبح ميزان القوى لمصلحتنا، حينها سنتخلص من قوانين المخيمات». ألا ترى أنك نقلت نسبة 100% منك إلى أحفادك، ما الذي سيجعل هؤلاء الأحفاد يفكرون في العودة؟ أجاب: اشتغال الذاكرة.
كيف تحافظ على الذاكرة؟ أولاً: وضع خريطة فلسطين الكبرى على الجدار في البيت، لترسخ في الذاكرة من رؤيتها يومياً. ثانياً: التواصل العائلي لتثبيت الوشائج رغم المسافة بين الملاجئ. ثالثاً: فلسطين موقع جغرافي، إذاً ستبقى في التاريخ. رابعاً: فلسطين هي الموضوع الرئيسي لوسائل الإعلام، إذاً فهي حاضرة في اليومي أيضاً. خامساً ألقّن أولادي أغاني وأشعاراً فلسطينية، نصوصاً تحمي الجيل الجديد من تشابه الرمال: «سجل أنا عربي...»، عربي ليس بمعنى عنصري، بل بمعنى الحق في الوطن والأرض. حق راسخ في الأرض والذاكرة، ذاكرة محاربة تقاوم مظاهر المحو التي تترتب عن التركيز على اليومي. الذاكرة مظهر مقاومة وقوة. والشعوب دائماً تبتكر لتقاوم.
* صحافي مغربي