حسن خليلأخيراً فعلها ميشال عون وترجم خطاباته في الاختيار الحكومي الأخير. العديد من أنصاره وأخصامه اتهموه بأنه صورة مخيفة لما تعوّدوا عليه من الطبقة السياسية. اعتبروه واحداً من سلاطين القوم المستبدّين الذين «يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف». خاب أملهم عند عودته من التهجير القسري باختياره بعض تمثيله السياسي حينها. علّل عون الأمر بأنه كانت لديه فرصة أقل من شهرين لالتقاط الأنفاس بعد عودته. ثم سبّب نكسة عند بعض الأنصار وبعض الحلفاء في اختيار بعض تمثيله الوزاري في الحكومة السابقة، وبعدها في بعض التمثيل النيابي مجدداً في 7 حزيران. داخل التيار اتهم العديدون الجنرال بأنه متفرّد في رأيه، لا يبالي إلا بما يرضيه ويسرّه، وبأنه أهمل التنظيم الداخلي للتيار كما يحصل في الأحزاب، وسمح لبعض مراكز القوى داخله بالاستقواء على المستضعفين فيه.
فجأةً، قلب ميشال عون الطاولة. وفى أخيراً بوعوده التي منها أنه مستمر في عدم السماح بطمس الحقائق، وأنه مستعد لمواجهة الباطل ولو وحده. اختار وزراءه الجدد على شاكلة ما يريده من أهداف، فاختار شربل نحاس وفادي عبود وجبران باسيل. هذا الخيار أحدث صدمة إيجابية بين الحلفاء والخصوم. كان يعلم أنه سيُنتقَد من بعض الحزبيين لأنهم لا يرون في التعيينات إلاّ ثمناً لولاء مصلحي. ميشال عون لم يردّ على هؤلاء لأنه يعلم أنه قائد وليس زعيماً. فالقائد هو الذي يقود جمهوره لما فيه المصلحة العليا، بينما الزعيم هو الذي يتزعّم جمهوراً شعبوياً لمصالح آنية. أخذ ميشال عون الجمهور المسيحي من الانزواء الطائفي الخائف من شريكه المسلم في الوطن إلى أن يشعر نفسه متساوياً مع الآخرين لا متميّزاً عنهم، وأن يحدد بالشراكة مَن هو الحليف ومَن هو العدو. أبرم تفاهماً مع حزب الله قلب به الطاولة على كل المشاريع التي كانت تحاك للبنان والمنطقة ابتداءً من صراع سني ـــــ شيعي وتهجير المسيحيين إلى «الشرق الأوسط الجديد». ولا يستحي عون بالمجاهرة بأن بناء الدولة على أسس حديثة هو هدفه النهائي وأن الدور المسيحي بذلك هو من خلال علمانيته من دون التخلي عن الخصوصية المسيحية. خياره لم يكن على قاعدة التزلّف والاستزلام الأعمى، ولا على حسابات المصالح المستقبلية من وراء الوزارات.
ماذا عن باقي المرجعيات السياسية؟
بخلاف عون، فإن القاسم المشترك بين الزعامات السياسية في تمثيلهم الحكومي استمر في كونه قائماً على الولاء الأعمى الذي يُترجم لاحقاً بتلبية المطالب للزعيم بدون مناقشة التي قد تتناقض في بعض الأحيان مع مصالح «الطائفة»، إن لم يُقَل الوطن. الفرق بينهم وبين عون أن الأخير حرّر جمهوره من التزلّف، بينما الآخرون ما زالوا يأسرون طوائفيّيهم في إحدى ثلاث زوايا: إمّا في رزقهم ووظيفتهم، أو في تسيير أمورهم الحياتية في البلديات والمناطق (أو عرقلتها)، أو في عزلهم ونبذهم حتى حدود الهجرة عن الوطن. والأظرف في ممارساتهم أنهم سبّاقون في الشكوى من حال الفوضى والتخبّط، وكيف أن لبنان لم يتأهل إلى «دولة» حتى الآن. هم رواد في إطلاق الشعارات ضد الفساد والطائفية.
نعم، نجح أخيراً ميشال عون حيث فشل سابقاً، وما زال الباقون مستمرّين بفشلهم. وبالتالي، فإنّ مسيرة التغيير في الذهنية والممارسة طويلة. والقصد ليس انتقاد كل خيارات السياسيين الوزارية أخيراً. فأكثر الاختيار محترم وصادق وذو سمعة طيبة. ولكن ما يفوت السياسيين في لبنان أن هذا البلد أسير صراعات انعكست على مجمل النسيج اللبناني وأنها مستمرة منذ بداية الحرب الأهلية حتى الآن. هنا يكمن الفرق الأساسي بين عون والآخرين. فالاختيار الوزاري لعون كان لرجال أعمال وباحثين عاصروا التطورات وتفاعلوا مع الحداثة في العالم خلال الخمس والعشرين سنة الفائتة، وبالتالي يمكنهم نقل خبراتهم التي كسبوها في الخارج إلى الداخل. أما أكثر خيارات الآخرين، فاستمرت قائمة على الشخصانية، وحملت ثغرة أنها لم تمارس خبرات تطبيقية سياسية أو تقنية يمكن الوطن الاستفادة منها. السياسيون في أسلوبهم هذا يساهمون بطريقة مباشرة في تخلّف لبنان عن محيطه وعن العالم.
حتى طائفياً ومذهبياً، فإن جمهور المذاهب ضاق ذرعاً بالأوضاع القائمة. فسنّياً، بات واضحاً أن مَن لا ينال مباركة تيار المستقبل يشعر بأنه معزول، من غير التقليل من كفاءة العديد من ممثليه السياسيين. ومسيحياً (خارج التيار الوطني الحر)، فولاء العائلات والأحزاب الفئوية هو الذي يهيمن. درزياً، مرجعية واحدة لا تشارك أحداً وتزور مشايخها أحياناً من باب المجاملة، أن يُرفع الولاء المطلق لها وإلا تغلق كل المنافذ. أما شيعياً، فاللافت أن التمثيل السياسي بشقيه النيابي والوزاري يتماثل إلى أقصى الحدود مع النمط السياسي المتبع في البلد وفي كل الظروف التي مر بها. فالغريب مثلاً أن وزارة الخارجية لم تُشغل في السنوات الأخيرة من شخصية سياسية مؤثرة في المحافل الدولية تواكباً مع شخصيات رؤساء الحكومات. لا يفهم الكثيرون التناقض المفروض بين «وحدة الصف الشيعي» وتقديم نموذج مختلف عن التمثيل المتبع في الحد الأقصى. بات التمثيل الشيعي يمارس ردة فعل على فعل بدل أن يكون متقدماً في المبادرات والمشاريع الإصلاحية والتشريع والمراقبة والمحاسبة والتحديث.
نعم، نجح ميشال عون جزئياً حتى الآن بعد وعود طويلة، ويبقى عليه التنفيذ بعد التعيين. أما الآخرون، فإن لم يفرض عليهم الواجب السياسي تغيير الذهنية، فقد يفرضه عليهم الواقع الاقتصادي وحال المالية العامة. طويلة هي مسيرة العمل لتطوير البيئات المحلية في لبنان للوصول به إلى أن تكون له مؤسسات تعكس قدرات مواطنيه وخبراتهم. جلد الذات ضروري ولكن لا بد أن يكتمل برفع الصوت والعمل مع غير اليائسين حتى يُنجز في الداخل ما أُنجز على الحدود. بقي على ميشال عون أن يترجم جهوده بتحويلها من فردية إلى مؤسساتية.