وائل عبد الفتاح«في انتظار التوابيت». الشائعة كانت أكبر من الحقائق المكتوبة في السجلات. مانشيتات الصحف الجزائرية عن قتلى في القاهرة وجدت من يصدقها رغم أن الدولة الحديثة لديها شبكات دقيقة لحفظ معلومات الإقامة والسفر. تجاوزت حرب الملاعب بين القاهرة والجزائر الخطوط المتوقعة لشغف انتزاع بطاقة التأهل إلى المونديال. لم يتوقف الأمر عند استعارات من اللغة الحربية: «جسر جوي بين القاهرة والخرطوم لنقل المشجعين»، أو من تقنيات الحرب النفسية: «إغراق السودان بخمسين ألف علم جزائري». الميديا المصرية صرخت في رجالها، وهنا ظهر المشير (رتبة وزير الدفاع المصري) وإنزالاته في ملعب المريخ (حيث ستقام المباراة الفاصلة اليوم). المتعصبون حاصروا مهندسين وعمالاً مصريين، وساد مناخ الجنازات من دون قتلى.
لم تعد حرب ميديا تشحن الجمهور وطاقاته المتشوقة إلى انتصار. هناك حزازات بين رأس النظامين لا يعرف أحد سر تفجرها أو مدى عمقها. يتسرب أنها على «بيزنس» خفي سابق على المباراة. التسريبات من هذا النوع تحاول التفسير. لكن هناك تسريبات أخرى مصدرها جزائري مطّلع كما وصفته وكالة «يونايتد برس إنترناشونال» تقول إن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وافق، بعد مناشدة من نظيره المصري حسني مبارك، على إبقاء مباراة السبت الماضي في القاهرة بعدما عرض الاتحاد الدولي لكرة القدم على الجزائر إمكان نقلها إلى مكان آخر عقب الاعتداء على البعثة الجزائرية، لكن مبارك لم يردّ الجميل.
ويفسر المصدر حكايته بأن بوتفليقة دُهش لوقوع اعتداء ثانٍ على البعثة الجزائرية مباشرة بعد نهاية المباراة، واتصل بمبارك ليستفسر عن ذلك، فكان رد مبارك: «لا أستطيع السيطرة على ردة فعل 80 مليون مصري»، رغم أن بوتفليقة تفهّم حاجة مبارك إلى إرضاء الجماهير خوفاً من ردة فعل عنيفة.
رئيس اتحاد الكرة الجزائري رأى أن «المصريين خونة». زلّة لسان لكنها مع تفاصيل ردّ الجميل، تبدو منطقية في تفسير الجزائر لما حدث.
السلطة في القاهرة والجزائر حوّلت الاستعارة اللفظية إلى واقع حقيقي، واستدعت معها غوغاء قطعوا المسافة بين حرب افتراضية في الملعب وحرب حقيقية بين نظامين متشابهين في الاستبداد.
التعلق بالمنتخب الكروي أقرب إلى واقع افتراضي جديد يحرك الطاقات المركونة، ويصنع هويات جديدة، ويخلق وطنية بعيدة عن الصناعة العسكرية المصاحبة لدول التحرر من الاستعمار.
في الملعب، استعادة لرمز كان مهملاً هو العلم. جعلته الجماهير مدنياً بعد سنوات من عسكرته واحتكاره لمصلحة الجيش. لا يرفرف العلم على شرفات القاهرة ولا بين أيدي الأجيال الجديدة بوحي من الدولة المستبدة، بل بسحر كرة القدم بما تتضمنه من متعة اللعب ومساواة أمام القانون وفرص دائمة لتداول السلطة (النصر ليس احتكاراً على فريق حتى لو كان البرازيل، وقوة الفريق وجبروته رهن باللعب ٩٠ دقيقة لا وفق حق مطلق بالسيادة). سحر الكرة يفجر الرغبة في الانتصار الجماعي أو اللقاء بين الشرائح المعزولة من المجتمع على شيء واحد.
الفرح يزيل الأسوار والحواجز ويلتقي الناس كلهم في حالة الهوس بالانتصار. ليس هوس الكرة القديم غالباً، ولا جاذبية النجوم أصحاب الأقدام الذهبية، لكنه اللعب بديلاً من... الحرب. اللعب كطريقة يهرب بها الوعي من حصار سلطة أقامت المتاريس بين شرائح المجتمع (بسياسات تفتقر إلى العدالة الاجتماعية)، ومنعت المؤسسات المدنية من الفعالية، وصادرت كل شيء من جبهة الحرب إلى الملعب. هذه حركة من أسفل، ورغبة في المجتمع بأن يفصل نفسه عن السلطة وخصومها. يتمرد على التوازنات بين شراسة السلطة السياسية والسلطة الأخلاقية المتزمتة. لحظة خارج السياق وفي اللعب حيث يشترك الناس كلهم في هدف واحد. هدف يصنعه نجوم اللعبة الخارجون من بيوت ناس عاديين، لا ورثة السلطة والثروة (والسلاح ربما). الأعلام رفعها الناس واشتروها ولم توزعها مؤسسات الدولة.
ومن دون إرادة من النظام، تنمو فكرة قريبة من التمرّد المؤقت. تمرد لا تستطيع أجهزة الأمن قمعه. الرغبة في لقاء حول نصر لم يصنعه النظام ولا جيوشه. صنعه المجتمع وجيله الجديد الذي يتعرف إلى وعيه عبر وسائل اتصال حديثة ميزتها الخفة والسرعة في الانتقال.
ومن هذه الخفة، تصنع هوية لا تعرفها الأجيال القديمة ويرونها تفاهة مطلقة وتغييباً عن الواقع.
لم تعد الرياضة في عالم لا يريد الحرب، إلا ساحة صراع آمن إلى حدّ ما. صراع بلا قتلى ولا ضحايا ولا هدم. حرب بلا دماء لكنها حرب الإدارة والإمكانات والمواهب.
سر جاذبية اللعب وانفجار الطاقات كلها من حول المستطيل الأخضر. دراما في النهاية تعبّر عن هوس مثل أي هواية (هي هوس ما بالذات)، لكنه هوس مدني ينتهي بالغناء أو حتى بالشتائم، لا بالقتل والتدمير.
الهوس يتحول إلى حرب وحزازات عندما يدخل على الخط الرؤساء والغوغاء. هنا تغيب إيجابيات طاقة الفرح، ويصبح البحث عن إنجاز عصابي ويعود إلى بداوته المفرطة.
بداوة رخوة لكنها خطرة، تكشف الوجه القبيح للظاهرة نفسها. وجه ينفعل فيه الرئيس مبارك أكثر في مكالماته الهاتفية إلى مدرب الفريق (غالباً بعد مناوشات الرئيس بوتفليقة)، والاهتمام المصري بالسودان بدلاً من أن يكون تسامحاً وفهماً لخصوصيات مشتركة يصبح نفاقاً سياسياً.
المشكلة أن الوجوه القبيحة تدوم أطول، وتطرد الوجوه اللطيفة.