ياسين تملالي *تواصل الجزائر التراجع عن بعض سياساتها النيوليبرالية بعدما تبيّن إخفاقها في تطوير دولة تمتلك كل مقومات النهوض من موارد طبيعية ومالية وقواعد صناعية لا يستهان بها. قانون المالية لسنة 2010 خيّب ظن من اعتقد أنه سيلغي الإجراءات التي اتُّخذت في الشهور الأخيرة وأعادت النظر في «ثوابت» الاقتصاد الجزائري منذ مطلع التسعينيات، وخصوصاً منها «تشجيع الاستثمار الأجنبي».
هذا التوجه بدأ منذ أكثر من سنة، تحديداً في صيف 2008. صحيح أنه تزامن مع اندلاع الأزمة المالية العالمية، إلا أن بوادره سبقتها بسنتين، وتجلت في خريف 2006 في قانون قلص امتيازات كثيرة كانت قد منحت للشركات البترولية الأجنبية على حساب الشركة الوطنية سوناطراك. إذّاك، أقر الرئيس بوتفليقة في خطاب طويل بفشل سياسته الاقتصادية. قال: «الطريق الذي سلكناه لم يؤدّ بنا إلى الجنة. يجب علينا أن نعيد النظر في استراتيجيتنا، وبخاصة في ميدان الاستثمار الأجنبي». غنيّ عن القول أن الصحافة الحكومية لم تردد أن يد الخارج تحركه مع أن ما قاله هو ما يقوله اليسار الجزائري منذ أكثر من عقدين. منذ 26 تموز/ يوليو 2008، تاريخ هذا الخطاب، اتخذت الحكومة قرارات كثيرة تجري في مجرى معاكس لإيديولوجيتها الرسمية، وكان أولها ما أقرته في قانون المالية التكميلي لـ2008 من إجبار الشركات الأجنبية على أن تستثمر في الجزائر من أرباحها ما يتناسب مع الإعفاءات والخفوضات الجبائية التي تستفيد منها. وقد عزز قانون المالية لـ2009 هذا القرار بقرار آخر يقضي باحتساب ما يُحول إلى الخارج من أرباح هذه الشركات كريوع فردية لمالكيها، ما يعنى فرض ضريبة عليها نسبتها 15 بالمئة. وتجسّد هذا التوجّه أيضاً في قانون المالية التكميلي لسنة 2009، في شكل مادة تجبر شركات الاستيراد الأجنبية على تخصيص 30 بالمئة من رساميلها لشريك جزائري. وكاد أن يكون لهذه المادة أثر رجعي لولا تدخل الرئيس بوتفليقة شخصياً (ودون أدنى مراعاة لقواعد صياغة القوانين) للحيلولة دون ذلك، ما أجبر البنك المركزي على إلغاء أمر كان قد أعطاه للبنوك بعدم التعامل مع أي مستورد لا يمتلك الطرف الجزائري 30 بالمئة على الأقلّ من رأسماله.
تفسيرات سياسية أهمها السعي إلى احتواء النقمة الشعبية المتصاعدة
ما الذي يدعو النظام إلى التضييق على الاستثمار الأجنبي وعلى لوبي المستوردين؟ قد يقول أحد غلاة الليبراليين إن هذا التضييق دليل على أن التخطيط صنو انعدام الحريات. وقد يبرهن على ذلك بتوازي تزايد انتهاك الحريات في الجزائر واشتداد قبضة الحكومة على الجهاز الاقتصادي. لكن الحقيقة ليست بهذه البساطة، ولا أدلّ على ذلك من أن الحمّى النيوليبرالية في التسعينيات والنصف الأول من هذا العقد لم تتزامن مع ترسيخ دعائم الديموقراطية في البلاد. ويمكن القول إن لتغير سياسة الحكومة الاقتصادية تفسيرات سياسية أهمها الرغبة في إضفاء شرعية جديدة على خطاب رسمي ملّ الناس اجتراره («مكاسب عهد الرئيس»)، والسعي إلى احتواء النقمة الشعبية المتصاعدة التي يشهد عليها عدم توقّف الانتفاضات الشبابية منذ ربيع 2001. هذه الانتفاضات هي نتيجة حتمية لتعمّم الوعي بالتناقض الصارخ بين دوام الأزمة وثراء الدولة الفاحش. فعدا عوائد الصادرات، تمتلك الجزائر احتياطات صرف قدّرت بما لا يقل عن 144،3 مليار دولار في أواخر حزيران/ يونيو الماضي، فضلاً عن 60 مليار دولار يزخر بها «صندوق معادلة نفقات الدولة»، الذي تُصبّ فيه فوائض الجباية النفطية (السعر المرجعي لبرميل النفط المعتمد في الميزانية أقلّ من سعره الحقيقي، بل إن الفارق بينهما، صدّق أو لا تصدّق، بلغ 120 دولاراً في تموز/ يوليو 2008). هذان التفسيران وجيهان، إلّا أنهما يبدوان غير كافيين. ذلك أن تراجع السلطة عن بعض ثوابتها النيوليبرالية قرار معقّد تتشابك فيه عناصر عدة. وعي الدولة بغناها (فوائض سيولة البنوك بلغت 30 مليار دولار لا مستثمر لها، منها 20 ملياراً للشركة البترولية سوناطراك وحدها لا يمكنها توظيفها في الخارج بفعل تضييق هامش نشاطها في أوروبا وروسيا)، دفع ببعض قطاعاتها إلى التفكير في توظيف أوسع لفوائض الجباية البترولية، وخصوصاً أنّ الاستثمارات الأجنبية تراوح مكانها (لم تتعدّ 2،33 مليار دولار في 2008، و700 مليون دولار في الشهور الستة الأولى للسنة الجارية)، وأن هذا التوظيف سيمكّنها من مجازاة بعض كبار زبائن النظام، كمجمع سيفيتال الذي يترأسه رجل الأعمال يسعد ربراب. وتخشى هذه القطاعات أن تؤدي مواصلة فتح الاقتصاد إلى إفلاس الشركات الجزائرية المنتجة، ما سيعني فقدان دعم «البورجوازية الوطنية» (منتدى رؤساء المؤسسات وغيره من منظمات أرباب العمل) وما بقي من أرستقراطية القطاع العمومي، وتوسّع جبهة المعارضة النقابية والاجتماعية. ويزيد من خوفها أن محاربة البطالة بتسهيل الحصول على القروض الصغيرة فشلت فشلاً ذريعاً بدليل أن 50 بالمئة من المؤسسات التي أنشئت بفضل هذه القروض اختفت بعد فترة وجيزة من إنشائها، كما أكد ذلك مؤخراً رئيس الاتحاد الوطني للخبراء المحاسبين. هناك تفسير أخير لتخلّي الحكومة عن عقيدة «التنمية بالاستثمار الأجنبي»: لوبي التسيير البيروقراطي للاقتصاد تشجّع على التحرك بعد ما كان لا يجرؤ على ذلك بسبب أزمة الموارد المالية التي كانت تعيشها البلاد قبل تحسن أسعار النفط، من جهة، وتأصّل الموضة النيوليبرالية قبل عاصفة الأزمة المالية الدولية من جهة أخرى. ويتكوّن هذا اللوبي من بعض كبار مسؤولي الجهاز الاقتصادي المركزي ومديري الشركات العمومية، ويسانده علناً بعض الوزراء كوزير الداخلية نور الدين زرهوني، الذي كان أحد رافضي قانون تسيير قطاع المحروقات المعتمد في 2005. وهو إن خاض في السنوات الأخيرة بعض الصراعات (كالصراع من أجل تكفل الخزينة بنفقات التطهير المالي للقطاع العمومي)، فإنه في أغلب الأحيان، كان يفضل «التقيّة» على المجاهرة برفضه لـ «إصلاحات» أفقدته الكثير من الريوع والامتيازات.
التذكير بأهمية المعارضة الداخلية لـ«لإصلاحات» ضروري لأن هذا اللوبي، إن دعا إلى «حماية الاقتصاد الوطني»، فبهدف إبقائه على حاله، بمزاياه وعلله، أي من باب الدفاع عن مواقعه فيه لا غير. لذا، فهو فضلاً عن إقراره ببعض «محاسن الاقتصاد الحر»، لا يناضل من أجل بديل تنموي يضع نصب عينيه مصلحة أغلبية الجزائريين لا أقليّتهم، ويسعى إلى أن يثبت أن «النجاعة» ليست نقيض «التخطيط»، وأن التخطيط لا يعني بالضرورة استغلال الفلاحين في «السوفخوزات» ولا تحويل الأجراء إلى آلات سوفياتية منعدمة الحقوق.

* صحافي جزائري