ما يريده أيّ إنسان من وجود دولة هو أن يستطيع العيش بكرامة إنسانيّة. والكرامة الإنسانيّة، تتلخّص باحترام كلّ إنسان وكلّ الإنسان، وهذا يعني تمكين الإنسان من تحقيق كلّ أبعاده، منها قدرته على العمل والسكن والطبابة والتعليم، وممارسة حرّيته للتعبير عن فرادته، وغير ذلك.


من دون تأمين هذه المتطلّبات تكون الدولة لا معنى لها، وتغدو في أرض الواقع سجناً كبيراً يعمل به الأكثريّة عبيداً فعليّين للأقلّية الحاكمة المتحكّمة، وإن وجدت حرّية التعبير في دولة كهذه (كلبنان) لا تكون سوى حرّية شكليّة، فما هي حرّية الإنسان إن لم يكن قادراً على أن يغيّر، أي أن يرفع عن نفسه وعن غيره الاستغلال؟ ثمّ أن حرّية التعبير الشكليّة هذه نفسها يقمعها الحكّام فوراً إذا ما شكّلت تهديداً فعليّاً للمستغلِّين، أي لمصالحهم ومصالح أصدقائهم.
في لبنان لا يمانع الممسكون بالحكم والاقتصاد، والأولياء على الشؤون الدينيّة، التعبير الحرّ عن الرأي على أن يبقى شكليّاً. فقد انبرى مؤخّراً سياسيّون ومسؤولون من رجال الدين (راجع تصريحات رجال الدين المسيحيّين المجتمعين في بكركي) لتأكيد احترامٍ (شكليّ) لحرّية التعبير، ولكن من دون إحداث تغيير في النظام الظالم القائم. أمّا المُمْسكون بالاقتصاد من وزراء ورجال أعمال، فقد عبّروا عن احترام "حرّية التعبير"، ولكن هوّلوا بانهيار الاقتصاد إذا ما أعطي العمّال والموظّفين حقوقهم، أمّا رئيس جمعيّة تجّار بيروت فقد أقرّ بوجود طبقات في لبنان، ولكنّه رفض أن تكون وسط بيروت مكاناً لكلّ الناس، وتكلّم باحتقار عن معظم اللبنانيّين الذين لا يمتلكون مقدّرات مالية كافية للجلوس في مقاهي ومطاعم وسط بيروت، ناعتاً إيّاهم بـ"أبو رخّوصة". لم ينكر رئيس جمعيّة تجّار بيروت الفجوة الهائلة في المداخيل بين اللبنانيّين ولكنّه رفض أيّ صراع طبقي في لبنان، أي بكلّ بساطة دعا أن يبقى المستغَلّون خانعين وخاضعين للمستغِلّين. والمستغِلّون كثيرون، منهم، مثلاً، السياسيّون الذين يستخدمون الدولة للاستدانة من أموال مصارفهم الخاصّة، مقابل فوائد مرتفعة، لتحقيق أرباح خياليّة من أموال الضرائب التي تُجمع من الشعب. وقد بيّن الباحث جاد شعبان منذ أيّام، بأنّ موجودات المصارف في لبنان هي 200 مليار دولار، وأنّ عائلات السياسيين تتحكّم بـ32% من إجمالي هذه الموجودات، وأنّ أربعة منهم حققوا أرباحا بقيمة 4.1 مليار دولار عبر مصارفهم، وأنّ ثمانية أسر لبنانيّة تتحكّم بـ 29% من حقوق المساهمين في المصارف (ما يوازي 7 مليار دولار).
خصوم الشعب الحقيقيّون هم رجال السياسية والاقتصاد هؤلاء، ومن يخدمهم ويتحالف معهم من رجال دين. هؤلاء جميعاً متّفقون على إبقاء النظام الاستغلاليّ القائم الذي، من خلال النظام الطائفيّ، يتوسّل الدين للإبقاء على خضوع الشعب للاستغلال. من أجل ذلك يجب الانتقال من النظام القائم، إلى نظام ليس فقط عادلاً اقتصاديّاً غير استغلاليّ، وإنّما أيضاً لا طائفيّ.


هذا النظام يفسد علاقات المستغَلّين بالله لأنّه يركّز في أذهانهم انتماءً دينيّاً شكليّاً


لكنّ هناك سبب آخر، غير تقويض نظام الاستغلال، ينبغي أن يدفعنا للعمل على إسقاط هذا النظام الطائفيّ، ألا وهو التشويه الرهيب للإيمان بالله الذي يسبّبه هذا النظام الطائفيّ. إنّ العلاقة الإيمانيّة بالله ينبغي بأصالتها أن تقوم على محبّة الله بخدمة الإنسان، إلاّ أنّ النظام الطائفيّ يُلصق بالإنسان جبراً هويّةً دينيّة، ويضعه في خانة طائفة معيّنة، ولا يَنظُر إليه إلّا من خلال هذه الطائفة، ما يدفع المجتمع بأسره كي يتعوّد أن ينظر إلى ذاته وإلى كلّ فرد آخر من خلال نفس نظرة النظام، أي من خلال الهويّة الطائفيّة حصراً. وإذا بالهويّة الدينيّة تتحوّل إلى حدّ كبير جدّاً إلى هويّة اجتماعيّة، قبليّة إلى حدّ كبير، مستقلّة عن إيمان الإنسان وعلاقته الشخصيّة مع الله ومدى انعكاس تلك العلاقة في تصرّفاته مع الآخرين. فإذا (1) بالعلاقة بالله تتحوّل إلى مجرّد علاقة شعوريّة فكريّة منفصلة عن أرض الواقع والتصرّفات، (2) وبالعلاقة مع الجماعة الدينيّة تتحوّل إلى علاقة عصبيّة قبليّة، تكتّل في وجه مجموعة تكتّلات أخرى، (3) ويغدو الله بذلك مجرّد وسيلة لتثبيت سؤدد ومصالح كلّ تكتّل طائفيّ مقابل التكتّلات الأخرى. وسنوضح ذلك.
نحن نعلم أنّ السياسيّين يبنون زعاماتهم في لبنان من خلال إبراز أنفسهم كممثّلين للطوائف، ولكنّ الواقع أنّ الفساد المستشري لمعظم هؤلاء، يُظهر بما لا يقبل الجدل بأنّهم في الواقع يستخدمون الإيمان لكي يتمكّنوا من التحكّم السياسيّ فالاقتصاديّ فالنهب، ويوزّعون بعض الفتات على المحاسيب والأزلام، ويشترون الذمم في الانتخابات وقبلها (بواسطة توظيف البعض في الدولة، مثلاً). النظام الطائفيّ هو وسيلةُ السياسيّ لضمان الاستغلال، وما التعليق الأخير لرئيس مجلس النوّاب، من أنّه لولا الطائفيّة لكان الناس سحبوا السياسيين من بيوتهم، إلاّ إقرار واضح بأنّ النظام الطائفيّ الذي يولّد الطائفيّة، هو الأداة الحقيقيّة التي يستخدمها السياسيّون من أجل تخدير الناس ومتابعة استغلالهم بموافقتهم (وهنا المفارقة). إنّ النظام الطائفيّ نفسه هو الذي يسمح بقيام الزعامات الحاليّة وبممارستها لسياسات النهب. فكلّ ناهب يختبئ بطائفته إذ يحاول أنّ يصوّر للناس أنّ المسّ به هو مسٌّ بالطائفة وبكلّ الجماعة المنتمية إليها.
أمّا رجال أصحاب المصالح الاقتصاديّة الكبرى، الذين يتعاونون مع السياسيّين لتمرير القوانين التي تناسب مصالحهم (الإبقاء على التعدّي على الأملاك العامة البحريّة، استدانة الدولة من المصارف المحلّية بفوائد مرتفعة، عدم فرض ضرائب على الأرباح العقاريّة، الإبقاء على نظام الوكالات الحصريّة، إلخ.). وبالطبع السياسيون هم أنفسهم أصحاب مصالح اقتصاديّة كبيرة كما أشرنا قبلاً، وبالتالي يمرّرون القوانين والمشاريع التي يستفيدون منها مباشرة، ويحمون كلّ ذلك بكونهم ممثّلين عن الطائفة. هكذا يمارس السياسيون وأصحاب المصالح الاقتصاديّة الكبرى الاستغلال والتسلّط (بواسطة أجهزة الدولة، وتهديداتهم الخاصّة) محتمين بالنظام الطائفيّ.
الأمر نفسه ينطبق على بعض رجال الدين الذين تسمح لهم مواقعهم بتقديم خدمات لرجال السياسة والاقتصاد (تأجير أوقاف لقاء مبالغ تافهة مقارنة بقيمتها الحقيقيّة، تأمين غطاء طائفي للمرتكبين، إلخ.) مقابل خدمات مماثلة (تعيين أقارب ومقرّبين في مناصب معيّنة، "تبرّعات").
هؤلاء الاستغلاليّون من مسؤولي السياسية والاقتصاد والدين، قد يقرّون فكريّاً بأنّهم مؤمنون بالله، ولكنّهم في الواقع يعيشون انفصاماً هائلاً بين هذا الإيمان الذي يعتقدون أنّهم يعتنقونه، وبين ممارساتهم الاستغلاليّة والتسلّطيّة التي تسحق ملايين من المواطنين. وبالتالي هؤلاء يعيشون إيماناً مشوّها أرادوا ذلك أم لم يريدوا، وعوا ذلك أم لم يعوا، لأنّهم يستفيدون من شبكة العلاقات الفاسدة القائمة بين السياسة والاقتصاد والدين والتي يرعاها ويسمح بها هذا النظام الطائفيّ. عند هؤلاء تحوّل الإيمان إلى مجرّد تصديق لمجموعة أفكار عن الله، مضافا إليها مجموعة مشاعر طيّبة حول الله والذات، معطوفة على انفصال عن حقيقة الإنسان الآخر الذي يعملون فيه تدميراً. وعلى أرض الواقع بات هؤلاء – وعوا أم لم يعو- يستخدمون الله وسيلة لمزيد من التسلّط والمكاسب، مهما بلغت درجة مظاهر خشوعهم في الصلاة.
وإذ هم يعلنون كرههم للاشتراكيّة والشيوعيّة يبقون قابعين في النفاق، فهم بالفعل يعيشون حالة اشتراكيّة بينهم فقط، إذ يشتركون معاً في نهب الشعب بشكل منظّم، هم "شيوعيّو" نهب المال العام، شيوعيّو الاستغلال المتّفقون، بكلّ خسّة، على استعباد ونهب "أبو رخّوصة" ومن ثمّ احتقاره. هذا النمط من العيش هو في تضاد مباشر مع الإيمان بالله ولكنّه يرتكز مباشرة إلى النظام الطائفيّ. وبالتالي، ومن وجهة نظر إيمانيّة بحتة، يجب إسقاط هذا النظام الطائفيّ القائم لأنّه يسمح لهم باستخدام الله والطائفة والدولة لتخريب حياة ملايين من البشر.
هؤلاء جميعاً يشتركون – كلّ بنسبة ما - بنهب الشعب واستغلاله، وبارتكاب جرائم يوميّة لا نعيها عادة. فحالات الوفاة التي نراها حولنا ليست كلّها مجرّد حالات وفاة، فالكثير منها جرائم، فعندما يموت مواطن أو تموت مواطنة من تسمّم، أو من عدم قدرته أو قدرتها على الدخول إلى مستشفى، أو الحصول على علاج مناسب، هذه المواطنة وهذا المواطن يقتلان قتلاً، لأنّ ما منعهما من الوصول إلى تصحيح أوضاعهما الصحّية هو التفقير (فالفقر ليس موجوداً بحكم الطبيعة وإنّما بسبب الاستغلال) الذي مارسه سياسيّون وأصحاب مصالح اقتصاديّة كبرى، وأدواتهم من رجال دين. ومن الثابت علميّاً، وهو أمر بات داخل المناهج التعليميّة في كلّيات الصحّة في جامعات العالم، هو أنّ تدهور صحّة الإنسان مرتبط مباشرة ليس بالفيروسات ولا بالبكتيريا وإنّما بمستوى الدخل، أي بالفقر، فمثلاً مَن لا يتغذّى كفاية ومن يسكن في مسكن مليء بالرطوبة، سيصاب بأمراض بلا شكّ. كثير من حالات الوفاة هي في الحقيقة حالات قتل. هكذا يتشوّه دور رجل الدين من ساهر مع المؤمنين من تلك الطائفة على إيمانهم وترجمته في الحياة اليوميّة، إلى متحالف عمليّ مع رجل المال، مدير ضمائر المؤمنين لتثبيت تسلّطه عليهم ولحماية مصالح المستغلِّين.
أمّا من جهة الناس المستغَلّين، المواطنين الذين يعيشون في ظلّ هذا النظام الطائفيّ منذ ولادتهم، فإنّ النظام الطائفيّ يُفسد علاقتهم بالناس وبالله. هو يُفسد علاقات الناس المستَغَلّين بغيرهم في الطوائف الأخرى، إذ عوض التعاون على البرّ والتقوى، و«استباق الخيرات» الآتية بالمشاركة مع الآخرين في خيرات هذا العالم (من خلال العدالة الاجتماعيّة)، تتحوّل المجموعات الطائفيّة في ظلّ هذا النظام إلى مجموعات مغلقة على ذاتها تبتغي مصالحها (رغم أنّ ما يتحقّق بالفعل هو مصالح البعض المتحكّم في الطائفة)، مجموعات تقف موقفاً حذراً ومشككّاً وعدائيّاً من المجموعات الأخرى لأنّها جميعاً تتصارع على أجزاء من الثروة الوطنيّة. هذا الواقع الذي يخلقه النظام الطائفيّ، يساهم في توليد أزمات وحروب أهليّة لا تنتهي. وهذا النظام يفسد علاقات المستغَلّين بالله لأنّه يركّز في أذهانهم انتماءً دينيّاً شكليّاً اجتماعيّاً عصبيّاً، انتماءً غير مرتبط بالإيمان المنعكس في الممارسات اليوميّة. هكذا، يمكن للإنسان أن يرى ذاته مؤمنا في طائفة، رغم أنّه يستغلّ، يسرق، يبيع ويشتري أصوات انتخابيّة، يكره الطوائف الأخرى، إلخ. ثمّ أنّ الطائفيّة تُفسد إيمان المستغَلّين بالله، بدفعها إيّاهم إلى عبادة الأشخاص عوض عبادة الله (وبأفضل الأحوال عبادتهم مع الله)، إذ ينزلق الإنسان الطائفيّ في علاقته مع رجل السياسة، الذي يمثّل وهميّاً في ذهنه الطائفة، إلى عبادة شخص الزعيم، وما تعنيه هذه العبادة من عبوديّة واستزلام من جهة، ومن تكتّل متعصّب، وتهجّم على الآخرين المختلفين واستعداءهم، وحتّى قمعهم. وإذا بعلاقات العبوديّة للزعيم تتحوّل إلى علاقات قمعيّة بالأضعف، فيتعمّم القمع في العائلة والعمل والطائفة نفسها، والمجتمع.
هكذا نرى، بأنّ النظام الطائفيّ مفسدٌ للإيمان على صعيد المستغلِّين والمستغَلّين. والمدى الذي يبلغه الفساد الإيمانيّ، الذي يولّده النظام الطائفيّ في لبنان، يمكن الاستدلال عليه من خلال ملاحظات عدّة منها، أنّ الناس يلعنون الله كلّ يوم من دون أن يسبّب ذلك مشاكل تذكر (ومن غير الضروري أن يسبّب مشاكل، فكلّ إنسان مسؤول عن نفسه وكلامه أمام ضميره والله)؛ ولكن لا يستطيع إنسان أن يمسّ بكلمة زعيماً سياسيّاً، أو رمزاً من رموز القبيلة الجماعيّة، حتّى ولو كان الرمز مجرّد بناء أو منصب (مبنى مجلس الوزراء، مركز رئاسة الجمهوريّة)، إذ عندها تثور ثائرة أتباع تلك الطائفة والدين، ويبدأ التهديد والوعيد. هذا الفرق في الانفعال والتصرّف، يدلّنا على أنّ الله بات عند الكثير مجرّد وسيلةٍ، وأنّ الزعماء والطوائف غدوا أصناماً تُعبد عمليّاً، رموزاً لصنم الذات الجماعيّة المنتفخة، رموزاً لعبادة الذات. هكذا تُعَمِّمُ الطائفيّةُ العقليّةَ القبليّةَ المغلقةَ، التي تجعل الإنسان يعبد الطائفة كرمز لذاته الجماعيّة، ويعبد الزعيم السياسيّ كرمزٍ آخر لتلك الذات الجماعيّة، في تشويه مريع لمقتضيات الإيمان بالله. عبادة الذات الجماعيّة، والعبوديّة والتسلّط الناتجتين عنها، هي نتاج هذا النظام الذي يحدّد الإنسان بطائفته لا بذاته وقيمته كشخص إنسانيّ. أصل الفساد هو نظام واحدٌ في لبنان، نظام الاستغلال الطائفيّ. أصل الفساد هو النظام نفسه وليس مجرّد فلان أو فلان (مع مسؤوليّة كلّ فرد عن النهب والقتل الذي يتسبّب به).
ولهذا، برأيي، ومن وجهة نظر إيمانيّة بحتة، ينبغي العمل على تفكيك هذا النظام الطائفيّ-الاستغلاليّ وبناء نظام لا طائفيّ ولا استغلاليّ في آن. فهذا النهب المنظّم مخالف لمقتضيات الإيمان، من مشاركة ومحبة وعمل صالح، ولكنّه لم يكن ليتمّ في لبنان لولا أنّ الناس مشدودون بعصبيّة طائفيّة للزعيم الذي تراه وهميّاً أنّه يمثّل الطائفة، بينما هو لا يمثّل إلّا مصلحته ومصلحة أصدقائه من أصحاب رؤوس الأموال والمتسلّطين الدينيّين. وأبعد من ذلك، إنّ إيمان الأديان السماويّة قائم على عبادة الله، لكنّ النظام الطائفيّ يدفع الإنسان إلى استخدام الله نفسه كأداة لتحقيق مصالح ومكاسب شخصيّة أو الجماعيّة (المجموعة التابعة لسياسيّ، أو لرجل دين، أو لطائفة محدّدة). والنظام الطائفيّ يجعل الإنسان يعبد زعيمه وذاته الجماعيّة (طائفته) في عداء مستحكم للطوائف الأخرى. وبهذا فإنّ النظامَ الطائفيَّ يشوّه الإيمانَ ويقلبه رأساً على عقب، إذ يدفع الإنسان إلى محاولة الاستيلاء فرديّاً وجماعيّاً على الله، وتجييره للمصالح، عوض أن يكون هذا الإنسان بعلاقة محبّة مع الله، تنعكس عملاً من أجل كرامة الناس وحياتهم، وما تقتضيه من عدل ومشاركة.
لهذه الأسباب، إنّ أيّ نظام جديد للبنان ينبغي أن يكون لا طائفيّاً، وهذا النظام اللا طائفيّ يدعوه البعض علمانيّاً والبعض مدنيّاً (تخوّفا~ً من سوء تفسير كلمة علمانيّ). المهمّ أن يكون فحوى هذا النظام فصل الدين عن الدولة، وبالتالي قانون مدني للأحوال الشخصيّة، واحترام حرّية الإنسان وما يعنيه ذلك من احترام لممارسة الأديان والعقائد، والمساواة التامّة بين المواطنين بغضّ النظر عن أيّ صفة أخرى. إنّ اللبنانيّين في الخارج يعيش معظمهم أصلاً في حمى قوانين كهذه، تؤمّن لهم الكرامة مهما كانت طوائفهم وعقائدهم. لكن من الضروريّ أيضاً لأيّ نظام جديد أن يكون نظاماً لا استغلاليّاً يحقّق العدالة الاجتماعيّة، لكي يتحقّق فكرة الوطن نفسها بتحقيق الكرامة الإنسانيّة، في تعاون جماعيّ بين المواطنين بواسطة الدولة، فيتحقّق بذلك أيضاً فحوى الإيمان بالله من خلال المشاركة الجماعيّة للمواطنين بواسطة الدولة في خدمة الناس، مشاركين في خيرات الأرض استباقاً للخيرات الآتية.
إنّ الإخلاص المطلق لأيّ إيمان بالله، يفرض، برأيي، على المؤمن المخلص لله ولنفسه، أن يعمل ليلاً نهاراً على الخروج من هذا النظام الطائفيّ الاستغلاليّ الذي يقتل الناس قتلاً بالتفقير، ويشوّه الإيمان إذ يدفع الناس إلى عيشٍ منافق يستخدم الله والآخرين كأدوات، ويستعبد الناس لزعيم ومتموّل ورجل دين، ويجعلهم ينغلقون في جماعات متعصّبة تسعى إلى جبروتها وسلطتها الجماعيّة (التي لا يستفيد منها في النهاية سوى البعض القليل)، جماعات تبقى في مواجهة عنفيّة استعباديّة واستغلاليّة للجماعات الأخرى ولأعضائها أنفسهم، جماعات تعبد نفسها وتدّعي عبادة الله.
الإيمان يقتضي العناية بكرامة الإنسان وحياته، والعناية بالإيمان تقتضي بالضرورة تفكيك هذا النظام.
الإخلاص لله يقتضي إسقاط هذا النظام.
* أستاذ جامعي