معتصم حمادة *تبدو الحكومة الإسرائيلية، برئاسة بنيامين نتنياهو، أكثر الأطراف جدية في تعاملها مع الموقف الفلسطيني الداعي إلى نقل القضية إلى مجلس الأمن لإعلان قيام الدولة الفلسطينية، وبسطها سيادتها فوق أراضيها المحتلة.
ردود الفعل الإسرائيلية على لسان رئيس الحكومة ووزرائه كانت عاصفة. بعضها هدد بضم المستوطنات إلى إسرائيل لفرض أمر واقع على الفلسطينيين والعالم. والبعض الآخر هدد حتى بضم الضفة الفلسطينية كلها. والبعض الثالث هدد بالتنصل من كل الاتفاقات المعقودة مع المفاوض الفلسطيني، مما يعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل التوقيع على اتفاق أوسلو.
كل هذه الردود الإسرائيلية تؤكد أن تل أبيب تقيم وزناً جدياً للقرار الفلسطيني المذكور، وأنه قرار يحمل في طياته تداعيات وانعكاسات تتمنى تل أبيب لو أنها لا تحدث أبداً، ولو أن الوضع الحالي يستمر على ما هو عليه.
إسرائيل يهمها أن تستمر العملية السياسية مع الجانب الفلسطيني، بغض النظر عن جمود المفاوضات أو استئنافها. فالعملية السياسية، بشروطها الحالية، تقيّد الجانب الفلسطيني بسلسلة واسعة من الاشتراطات والالتزامات، وتحرر إسرائيل من أية التزامات أو اشتراطات، بل هي توفر لها الفرصة لفرض الأمر الواقع جغرافياً وسياسياً، وتوفر لها الفرصة، أيضاً، لفرض شروطها على الجانب الفلسطيني، مستغلة العديد من العوامل المساعدة لها، وفي مقدمها أنها طرف يمارس الاحتلال على الأرض الفلسطينية، ويمسك بمداخلها ومخارجها ومفاصل الحياة فيها، في ظل «هدنة» طويلة الأمد، رفعت الخطر عن الوجود الإسرائيلي في الأرض المحتلة، وبات وجوداً غير مدعو ليدفع كلفة وجوده من دم جنوده وضباطه ومستوطنيه. بل على العكس من ذلك، ما زال الفلسطينيون (رغم هذه الهدنة) هم الذين يدفعون ثمناً غالياً لهذا الاحتلال (اعتقالات، اغتيالات، مصادرة أراضٍ، إعاقة الحياة اليومية..). ووضع حد للعملية السياسية واستبدالها باللجوء إلى مجلس الأمن، سيكبدان إسرائيل خسائر باهظة ويضعانها أمام واقع جديد، تتمنى كثيراً ألا تشهده الأرض الفلسطينية المحتلة.
يهم إسرائيل أن تستمر العملية السياسية مع الجانب الفلسطيني، بغض النظر عن جمود المفاوضات أو استئنافها
كذلك يهم إسرائيل أن تستمر العملية السياسية في إطار من المفاوضات الثنائية ودون طرف ثالث أو رابع. حتى أنها ترفض أن يتحول الراعي الأميركي نفسه طرفاً ثالثاً إلى طاولة المفاوضات. وكثيراً ما حاولت الولايات المتحدة أن تدخل مباشرة على خط المفاوضات، لكنها قوبلت بالرفض الإسرائيلي. ولعلّ تجربة كامب ديفيد (تموز ـــــ يوليو 2000) ما زالت ماثلة في أذهان الإسرائيليين. إذ يرون في وجود طرف ثالث خطوة تحد من قدرتهم على فرض شروطهم على الجانب الفلسطيني، وخطوة بالمقابل، تعطي الطرف الثالث الحق في أن يتقدم باقتراحات تحاول أن توازن بين مواقف الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وتعتقد إسرائيل أن أية محاولة لحلول «توازنية» هي إخلال بقواعد اللعبة التي تخوضها ضد الفلسطينيين والقائمة على مبدأ الاستفراد بهم إلى طاولة المفاوضات. يهم إسرائيل أن يدوم هذا الوضع، وترى أن الذهاب إلى مجلس الأمن قد يضع حدّاً لهذه اللعبة، بحيث يدخل على خط المفاوضات أكثر من طرف خارجي، تتوقع إسرائيل أن يكون لكل منهم دوره في الإخلال بالمعادلة التفاوضية القائمة حالياً، والمختلة اختلالاً كاملاً لمصلحة الجانب الإسرائيلي.
كذلك يهم إسرائيل أن تستمر العملية السياسية بلا مرجعية سياسية وقانونية ودون سقف زمني معين. وقد عبر عن ذلك أكثر من مسؤول إسرائيلي كان في مقدمهم نتنياهو نفسه، ووزير خارجيته أفيغدور ليبرمان. فخلافاً للقرارين 242 و194، يطرح نتنياهو حلاً سقفه إدارة سياسية واقتصادية ذاتية للفلسطينيين لا ترتقي إلى دولة مستقلة، بل تبقى في بطن إسرائيل وتحت هيمنتها. بدوره يسخر ليبرمان من أية تسوية لقضايا الحل الدائم، ويعتبر ذلك ضرباً من الوهم ويدعو، كما دعا من قبله شارون، إلى حلول على مراحل طويلة زمنياً، لا يُنتقل من مرحلة إلى أخرى إلا بعد أن تتيقن إسرائيل من حسن تطبيق الفلسطينيين المرحلة السابقة. وتُستثنى من هذه الحلول قضيتا القدس واللاجئين. فالقدس المحتلة عام 67 موضوع غير قابل للتفاوض، حسب ليبرمان. أما اللاجئون فحل قضيتهم يكون «خارج أراضي إسرائيل» أي بالتهجير إلى بلد ثالث أو التوطين في البلد المضيف. إحالة القضية إلى مجلس الأمن، تعني العودة إلى الشرعية الدولية أي إلى القرارين 242 و194 اللذين يعاد التأكيد عليهما (وعلى غيرهما أيضاً) كمرجع للعملية التفاوضية، ملزم للطرفين بمن في ذلك الطرف الإسرائيلي، وطبقاً للتصريحات، فإن السقف الزمني الذي تقترحه بعض الدوائر لقيام الدولة وجلاء قوات الاحتلال والمستوطنين لا يتجاوز السنتين. مثل هاتين الخطوتين (مرجعية دولية وسقف زمني) من شأنهما أن تسحبا البساط من تحت أقدام الاحتلال الإسرائيلي. وأن تضعا إسرائيل في مواجهة المجتمع الدولي، لا الفلسطينيين وحدهم. ولعلّ إسرائيل تحفظ جيداً دروس «روديسيا» و«جنوب أفريقيا» وغيرهما من أنظمة التمييز العنصري. وتحفظ جيداً دروس مصير الاستعمار مهما كانت هويته، وكيف انتهى هذا المصير.
وتدرك إسرائيل أن اللجوء إلى مجلس الأمن وتعليق العملية التفاوضية (أو إلغاءها) من شأنهما أن يدخلا مناطق الضفة الفلسطينية وقطاع غزة والقدس في وضع جديد، تتحرر فيه من اشتراطات العملية التفاوضية، ومتطلباتها، كما رسمتها مباحثات ونتائج أعمال أنابوليس واتفاقية أوسلو وبروتوكولاتها الأخرى. وستفتح الباب لمرحلة جديدة، قد تستعيد بعض مظاهر الانتفاضتين الأولى والثانية. بل ربما تتجاوز هذه المظاهر نحو أساليب جديدة، وخاصة أن الوضع سيكون محكوماً، هذه المرة، بتجربة تفاوضية فاشلة، لا يصح بعد هذا الفشل الترويج لتجربة مماثلة، وإلا سيكون الوضع الفلسطيني لاحقاً أسوأ مما كان عليه. إسرائيل تخاف مما تسميه «الفوضى» في مناطق السلطة أي اللجوء إلى المقاومة الشعبية بكل أشكالها وسبلها وأدواتها، السياسية والعسكرية والاقتصادية، والدبلوماسية والإعلامية وغيرها. وكواحدة من علامات الرعب الإسرائيلي من الوضع الجديد، هو التهديد بضم المستوطنات. ونعتقد أن مثل هذا التطور، رغم مخاطره، لن يكون عصياً، إلى حد الاستحالة، على الحل. فالوجود الاستيطاني، ووجود الاحتلال في الضفة الفلسطينية رهن بالموقف الشعبي الفلسطيني نفسه. إذ كلما لاحظ الاحتلال أن وجوده على الأرض الفلسطينية لا يكلفه كثيراً، كلما تمسك بهذا الوجود. وبالمقابل، كلما لاحظ أن هذا الوجود من شأنه أن يكلفه غالياً، كلما بحث عن حلول لهذا الوجود، بما في ذلك ما تسميه إسرائيل إعادة الانتشار.
أخيراً وليس آخراً يمكن اعتبار التهديد بضم الضفة كلها تعبيراً فاقعاً عن حقيقة المأزق الذي يعيشه الاحتلال والاستيطان في الضفة. فإسرائيل لا تكف عن الحديث عن «الفصل بين الشعبين» حفاظاً على ما تسميه «يهودية الدولة» وحتى لا يتحول الفلسطينيون إلى أكثرية، في دولة تقدم نفسها «يهودية» و«دولة اليهود» في العالم. وتقول إن من أهداف «الجدار» هذا الفصل المزعوم. بل تدعو بعض أوساطها إلى ضم المناطق الكثيفة بالسكان الفلسطينيين داخل إسرائيل نفسها إلى مناطق السلطة (أم الفحم، وادي عارة الخ). كما ترفض بعناد فكرة الدولة الواحدة، بذريعة التخوف من هيمنة العنصر الفلسطيني على «العنصر اليهودي». الحديث عن ضم الضفة، ينسف كل هذه المواقف، و«يهدد» بغلبة العنصر الفلسطيني على «اليهودي». إلا إذا كان في جعبة نتنياهو ووزرائه خطة للترحيل الجماعي للفلسطينيين نحو الأردن.
إذا كان التلويح بالذهاب إلى مجلس الأمن، أحدث كل هذا الهلع، وهذا التخوف، وردود الفعل هذه داخل إسرائيل، فماذا سيكون عليه موقفها، لو أن الجانب الفلسطيني استكمل خطوته نحو انقلاب حقيقي ضد مشروع التسوية الأميركي ــــ الإسرائيلي؟
* عضو المكتب السياسي
للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين