سعد الله مزرعانيدعوة الرئيس بري تصدر أيضًا عن قطب نيابي وسياسي وشعبي. وهو له حلفاؤه أيضًا من أصحاب الأوزان الكبيرة، كما له تحالفاته وعلاقاته العربية والإقليمية المعروفة. كذلك فإنّ رئيس حركة «أمل» والمجلس النيابي، منخرط في «سوق» المحاصصة، «يبيع ويشتري»، كما قال ذلك هو يومًا، مبرّرًا هذا الانخراط. وهكذا رفع بري إلى درجة عالية أمرين: مسألة طرح تطبيق النص الدستوري، ومسألة الاعتراض على تطبيق هذا النص. وفي مفارقات هذه المسألة نذكر أمورًا عديدة تتبادر الآن إلى دهننا، علمًا بأنّها لن تكون الوحيدة متى انكشفت، تباعًا، كلّ الحقائق والمقاصد المتصلة بتطوّرات الوضع السياسي الراهن وبالأولويات المثارة أو المطروحة.
ــــ في المقدّمة لا بدّ من ملاحظة تزايد عجز آليات النظام السياسي الراهن عن تأمين صيغة آمنة ومستقرّة للتعبير عن مصالح أطرافه وعن توازنات هذه المصالح.
ــــ إنّ أشكالاً جديدة من الهيمنة قد برزت في السنوات الخمس الماضية، وهي حلّت واقعيًا محلّ ما كان قائمًا في مرحلة الإدارة السورية، التي أحلّت بدورها صيغة جديدة مغايرة لما كان قائمًا في مرحلة امتيازات المارونية السياسية...
ذلك يعني أنّ الحاجة إلى التغيير، مع تغيّر الوضع في المنطقة لغير مصلحة واشنطن وحلفائها اللبنانيين، باتت مطروحة. وهي لن تعبّر عن نفسها مباشرة وبفجاجة. وربّما إنّ ما يطرحه الرئيس بري، إنّما يرمي إلى تغيير في التوازنات دون المساس بجوهر نظام الطائفية نفسه. هذا احتمال غير مستبعد. وهو احتمال راجح أو حتى معلن لدى البعض، ممّن يعتقد أنّ ميزان القوى الإقليمية لا يطيق استمرار المعادلات التي نشأت في ظلّ النفوذ الأميركي الذي وجّه سياسة السلطة اللبنانية وحدّد توازناتها منذ نيسان عام 2005 إلى 7 أيار عام 2008.
إنّ هذا الاحتمال الذي تتداخل فيه عوامل وتوازنات داخلية وخارجية، هو ما يستثير، طبيعياً، ردودًا من النوع نفسه. فالخلفيات التي تحكم مشهد الصراع حاضرة لدى الجميع. وهي ستكون حاضرة في حركتها ومتغيّراتها في المشهد السياسي الجديد الذي تكرّس جزءًا منه الحكومة الحالية في بيانها الوزاري وفي تكوينها وفي التحفّظات على هذه وذاك!
ــــ في ما يتعلّق بالقوى اللاطائفية، الوطنية الديموقراطية، هذه الخشية قائمة: أي ألا يكون القصد من وراء طرح موضوع إلغاء الطائفية السياسية قصدًا إصلاحيًا صافيًا ومصمّمًا. لكنّ ذلك يجب ألا يعني الاكتفاء بالتشكيك دون أداء دور في تصويب المسار وفي طرح المقاربة الإصلاحية الإنقاذية الشاملة.
أشكال جديدة من الهيمنة برزت في السنوات الخمس الماضية، وهي حلّت واقعيًا محلّ الإدارة السورية
ــــ أما المفارقة الأخرى، فهي في استمرار الحذر من التغيير أو رفضه من ممثلي الأطراف السياسية المسيحية، وبما يشبه الإجماع. ثمّة فوارق طبعًا. الجبهة التقليدية (البطريركية المارونية والكتائب و«القوات») تعلن رفضًا صريحًا يستعيد، الآن أيضًا، مفردات جرى تداولها وتكرارها منذ عقود تمتدّ من الاستقلال إلى اليوم. يربط هؤلاء بين سلاح المقاومة والبحث في إلغاء الطائفية السياسية. البعض يستعيد اشتراط العلمنة الشاملة لكن على طريقة المثل القائل «من يكبّر حجره لا يضرب».
وضمن هذه المفارقة التي تضع «المجتمع المسيحي» في موقع المحافظ والرجعي، تبرز تناقضات وتساؤلات لم تعد تجد لها حلولاً: هل تمثّل المناصفة ضمانة لتأمين التوازن أي لتحقيق هذا التوازن في سلطات القرار والإدارة؟... إذا كان الأمر كذلك، فلماذا الآن، وفي ظلّ المناصفة، يعيّن الرئيس بري 7 مدراء من أصل 11 مديرًا في مجلس النواب، كما أشار قائد «القوات» اللبنانية نفسه؟! وقبل ذلك تذمّر البطريرك صفير علنًا من عدم التوازن في التعيينات التي أقرّتها حكومات حليفة له يهيمن عليها تيار «المستقبل»... ولا بدّ أيضًا، من استدراك آخر، جرى تناوله منذ أشهر قليلة بشأن دور العدد في تحديد الأقلية والأكثرية. بكلام آخر، ألن يأتي وقت تقود فيه الصراعات إلى رفض الأكثرية للمناصفة ما دام النزاع هو الأساس وما دام الاختلال الديموغرافي ماضياً في تصاعده؟! لقد آن الأوان لكي تُطرح هذه الأسئلة على «المسيحية السياسية» في لبنان. والجواب الصحيح واحد: المساواة في المواطنية هي الحل، شرط أن تكون مقرونة بضمانات الديموقراطية في دولة حقوق وقانون ومؤسّسات.
أما بالنسبة إلى العماد عون فقد داهمه الطرح وهو يعتبر نفسه في عزّ معركة تأمين التوازن بعد اختلال لغير مصلحة التمثيل المسيحي. وهو كان قد صاغ معادلة عبّر عنها مرارًا، بأنّ الأولوية الآن لاستعادة التمثيل المنتقص، أما الإلغاء فمرحلة لاحقة. لكنّ الرياح قد لا تجري وفق ما يشتهي العماد عون. وهو الآن، مُطالَب باستعادة مواقفه من ضرورة بناء دولة مدنية يتساوى فيها المواطنون أمام القانون، أما الهواجس الطائفية والمذهبية فتحال إلى مجلس شيوخ محدود الصلاحيات ويقوم على المناصفة، وينشأ لهذا الغرض.
ــــ المفارقة الثالثة هي في موقف تيار «المستقبل». فلقد سبق أن بالغ رئيس الحكومة الجديدة، أثناء المعركة الانتخابية، في التمسّك بشعار المناصفة. أضفى على الشعار صفة أبدية. ليست الممارسة على هذا النحو، كما أسلفنا. كذلك فإنّ دفع العصبية المذهبية إلى حدّها الأقصى، سيكون سلاحًا له أكثر من حد، وقد يصيب في مجرى سياق يخرج عن السيطرة، قوى حليفة. ألم يحصل ذلك في الأشرفية عام 2006 حين «اجتاحها» المتطرّفون الحلفاء كما وصفهم جعجع آنذاك؟!
لن تكون المعركة سهلة. إنّها معركة كبيرة ما دام الجميع من حيث المبدأ، منخرطاً في المحاصصة. ثمّة محاولات مستمرة، كانت وستبقى، لتغيير التوازنات. المهم تحويل هذه المعركة إلى معركة إصلاح حقيقي، على الأقل عبر تطبيق المواد الدستورية ذات الصلة.
ــــ المفارقة الأخيرة أنّ القوى الديموقراطية التي هي صاحبة الشعار وهي في الواقع أم الطفل، لا تزال عاجزة عن تقديم مساهمة مؤثّرة. لقد آن الآوان لذلك. فلنباشر بالبحث عن الصيغ والأشكال والبرامج المناسبة.
* كاتب وسياسي لبناني