حسن خليلأصبح اللبناني في «نفق» الغموض. لم يعد يعرف لغوياً إن كان «نفاق الطائف» يعني أن هذا الاتفاق في بنوده قد «نفق» من المضمون، أو أنه مصبّ «نفاق» مهندسي «السلم الأهلي» بعدما هندسوا «الاقتتال القبائلي»، أو قد يكون أنّ «النفاق قد نفق» وباتت الهواجس تحكم التصريحات؛ كلّ على مزاجه وحسب المرحلة.
«نفاق مستمر»، يقابله «نفاق» مماثل أن لا «تتنافقوا» علينا لأننا نعرف كيف «ننافق». أخيراً، لم يعد مسيحيو اليوم يخفون نقمتهم على اتفاق الطائف، وهو ما لم يفعله مسيحيو التسعينيات، وكيف أنه أخذ منهم صلاحيات موقع ضمانة نفوذهم الأول. الجميع يجاهرون بذلك، ما عدا بعض ما كان يسمّى «قوى 14 آذار» الذين يتكلمون بخجل حتى لا يُخَوَّنوا بمسيحيتهم. جميعهم من رئيس وزعماء و«مسيحيي النضال» يعلنون أن لبنان لن يستقيم إلّا بعودتهم إلى «السلطة الفعلية» بعدما أُقصوا عنها.
لكن مهلاً، فلو حصل ذلك، لأقام سُنّة لبنان، ومن ورائهم سُنّة «الاعتدال» والتطرف في العالم الدنيا وأقعدوها على رؤوس الجميع إذا ما مسّ أحدٌ ما أنجزه الرئيس الشهيد ومَن وراءه. ويقولها المفتي بصوتٍ عالٍ: كلّنا تحت سقف الطائف.
الدروز يوافقون، لكنهم يسألون أين مجلس الشيوخ، الذي وُعدوا به كـ«جنّة الأرض» قبل بلوغهم «جنّة السماء». ترتفع أصوات المطالبة وتنخفض حسب موسم المساومات.
أمّا «الشيعية السياسية»، فتستفيق مرة كل بضع سنوات على إلغاء الطائفية السياسية. ولمَ لا؟ أليس منصوصاً في «نفاق الطائف» أن تُنشأ الهيئة العليا لإلغاء الطائفية السياسية؟ والعياذ بالله، يقولها «مسيحيو الاعتدال والتطرّف» و«مسيحيو الوجود المسيحي» و«مسيحيو العلمنة»... وحتى «مسيحيو الإلحاد». هذا سيؤدي إلى اختلالات توصلنا إلى «اتفاق نفاق جديد» بعد خراب البصرة.
طيّب، ماذا عمّا أقرّه الطائف «ونلتزم به جميعاً اليوم كما فعلنا سابقاً» في ما يتعلق بنزع سلاح الميليشيات؟ نعم، نعم... سلاح المقاومة هو ميليشياوي. لا، لا... «خيّطوا بغير هالمسلّة». حق المقاومة وسلاحها اللاحق حق مشروع في «دستور صيغة 1943 ـــــ المأساة وفي دستور النفاق الطائف 1990». نقطة تفسيرية اجتهادية أخرى يُسخّر لها وبها جهابذة التشريع لـ«اتفاق النفاق».
كان المطلوب من الطائف في الحدّ الأدنى وقف الحريق في البيت، وبعدها ترميمه. استُشهد «شهداء القضايا اللبنانية» في حرب بشعة ليستفيق الأحياء على فخاخ ما وقّعوه. فهذا يطالب بإلغاء الطائفية السياسية، وآخر مرعوب منها. طرف يريد استرجاع ما فقده، وآخر يحذّر من المساس بالصلاحيات. زعماء لا يزورون الكنائس ولا الجوامع ويفاوضون على حقوق الطوائف. أقطاب نظّموا الفساد في ما بينهم ونجحوا في تثبيت «جمهور الفساد» و«جمهور التعصّب». جعجعة مستمرة ولا طحين، في وقت يُشغل فيه لبنان بالساسة والسياسة، بينما تُبنى الاقتصادات في المحيط.
لكن اطمئنوا، فالطائف ضَمِنَ القضاء. ألم تسمعوا بأحكام المجلس الدستوري، الذي رأسه شخص «لا يرضخ للابتزاز» و«أعضاؤه نُزَهاء»؟ القانون الذي درسوه لا يُبطل نيابة أحد ما لأن رشوته «كانت قبل أربعة أشهر من الانتخابات». لم يصدّقوا الصوت والصورة والإفادات، واجتهدوا بأن النتيجة ما كانت لتتغيّر لو حُذفت نتيجة الدائرة المعنيّة. يظهر أن مبدأ إبطال نتيجة الانتخاب ومقاضاة الراشي ولو لصوت واحد لم يُذكرا في كتب القانون التي درسها أعضاء المجلس الدستوري «المشهود لهم». ولماذا الغرابة في إدارة القضاء بعد الذي حصل في قضية ملف اغتيال الرئيس الشهيد وحيثياته؟ أين وجدي الملّاط؟
مَن يعلم، قد تكون اللامركزية الإدارية هي البند الجامع «لاتفاق النفاق»، والدليل على «الإصلاح وبناء الدولة». أوليست اللامركزية الإدارية هي الركيزة لتسهيل حياة المواطن؟ اسألوا عمّا استُنتِج في التحقيقات عن فساد البلديات والمجالس البلدية. اسألوا عمّا اكتُشِف في التعهّدات والاستملاكات والتوظيفات ومخالفات البناء والمواقف العامة والرشى. اسألوا إن كانت النيابة العامة قد تحرّكت للتحقيق في ما كُتِب. لكن اطمئنوا لأن الفساد سيختفي بعد تعزيز «صلاحيات المجالس البلدية». ببساطة، سيسجن المواطن الأسير كما في سجن زعيم طائفته وزعيمه السياسي، كذلك في سجن مجلسه البلدي.
«كلنا تحت سقف الطائف». شعار يردّده الجميع، كما يردّدون أنهم كلهم غير طائفيين ويريدون بناء الدولة. وكيف لا «ويبدأ بناء الدولة من اللامركزية الإدارية» عبر تأجيل الانتخابات البلدية سنة من دون منطق ولا مسوّغ أمني أو قانوني. الانتخابات النيابية في يوم واحد، لكن يصعب إجراء الانتخابات البلدية. قد يكون السبب غير المعلن أن القادة الأمنيين كاد بعضهم يُطلق النار على بعضهم الآخر بعدما تمترس كلّ منهم في طائفته.
نفاق الطائف ودستور النفاق يقضيان بالوقوف على رأي البطريرك والمفتي والشيخ والزعماء وأحزاب العائلات وعائلات الأحزاب. اتفاق يقضي بتوزيع مغانم المجالس والمصارف والوكالات والكازينو والضمان. أما الزراعة والصناعة والإنتاج، فغير مُلزِمة في هذا الاتفاق.
لم يعد من حل إلا إدراج اتفاق الطائف بنداً وحيداً على طاولة الحوار بدون نفاق، لأن البنود التي ما زالت مدرجة عليها يغمرها النفاق أيضاً. هل من إنجاز واحد لأولياء الأمر بعد كل ما هدموه، أن يجلسوا معاً ويناقشوا ما يريدون من الطائف، فيعتمدوا نهائياً ما يُتفق عليه، ويحذفوا بنود «الاقتتال المضمر»، لعلّ وعسى عندها يمكن أن تكون الصيغة المنقّحة النهائية صيغة تنهي النفاق، وتؤدي إلى ولادة «الجمهورية العاشرة».