علي شهاب *عمل القائد العسكري لحزب الله عماد مغنية، في عمر الثالثة عشرة، بائعاً للألبسة على عربة في منطقة الشياح... كان الأمين العام السابق السيد عباس الموسوي ينام في السيارة لأنه لم يمتلك يوماً منزلاً خاصاً به... لجأ الاستشهادي أحمد قصير ثلاث مرات إلى الاستخارة قبل أن ينفّذ العملية ضد مقر الحاكم العسكري في صور في الموعد المحدد... ليس سهلاً الحصول على مراجع أو مصادر موثقة عن قيادات حزب الله ومجاهديه الأوائل، لا لأسباب أمنية، بل لأن ذاكرة 25 سنة من المقاومة، بكل بساطة، غير مدوّنة رسمياً. وهكذا لا عجب حين يبدي شاب من الجيل الثالث أو الرابع في حزب الله استغرابه عند ذكر أسماء رموز كـ«سمير مطوط» و«صالح حرب» و«أسعد برو» و«أحمد يحيى» أو محطات مفصلية كمواجهة «اللويزة» ومعركة «ميدون» وحادثة «مليخ» وغيرها من الفصول في كتاب المقاومة، مع الإشارة إلى أنّ هذا الحزب «الشاب»، بحسب تعبير السيد حسن نصر الله في أحد خطاباته، يحتضن أربعة أجيال على الأقل بالمعنى النظري المرتبط بالمراحل المفصلية التي مرّ بها منذ نشأته:
ــــ الجيل الأول: الأفراد الذين واكبوا التأسيس والانطلاقة حتى نهاية الثمانينيات.
ــــ الجيل الثاني: هم الذين عاصروا المرحلة «الذهبية» للمقاومة.
ــــ الجيل الثالث: بعد التحرير عام 2000 وحتى تموز 2006.
ــــ الجيل الرابع: وهو الجيل الذي تعرّف إلى حزب الله بعد حرب تموز 2006.
قد يجادل البعض في أن استمرار الخطر الإسرائيلي وتداعياته وتركيز المقاومة على الجانب العسكري والأمني أولوية في الوقت الراهن. حسناً، ولكن ماذا لو كانت أولوية إسرائيل، بعدما فشلت في تحقيق أهدافها عسكرياً، شنّ حرب «ناعمة»؟
في الأسبوع الأخير من شهر رمضان الفائت، التقى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي وفداً يمثل الفنانين والأدباء والجامعيين. كان لافتاً تركيز المرشد على مصطلح «الحرب الناعمة الكبيرة التي يشنها الأعداء» بالاعتماد على الوسائل والوسائط الإعلامية المختلفة، مشدداً على دور الفنانين والأدباء والمثقفين في هذه المعركة باعتبارهم «خط الدفاع الأول» في هذه المرحلة.
المتابع لخطاب خامنئي يدرك تماماً دقة عباراته وجدّيتها. انطلاقاً من هذا الخطاب نفسه، واستناداً إلى أن الثورات، حين تخمد المواجهة العسكرية، بحاجة دائمة إلى وقود يغذيها، تبرز أهمية الحديث عن ذاكرة حزب الله المفقودة. وهكذا، فيما تحوّل الثائر الأرجنتيني تشي غيفارا إلى رمز للثائرين حول العالم بجهود فردية وبالرغم من قلة في الإمكانات المادية واللوجستية والتخلف الإعلامي حينها، لم يقدم حزب الله، حتى اليوم، بالرغم من إمكاناته وقدراته، مادة تروي عطش الجيل الجديد في الحزب نفسه. وعلى الجميع انتظار إطلالة السيد نصر الله كي يستذكر في معرض خطاب سياسي أو ديني مآثر شخصية في المقاومة أو يستشهد بحادثة في تاريخها.
لا تزال ذاكرة 25 سنة من المقاومة غير مدوّنة رسمياً
ليست المطالبة بحفظ آثار وتراث قادة المقاومة وشهدائها ومجاهديها وأسراها وعائلاتها ونشرها «ترفاً» ثقافياً، بل هي في صلب العمل المقاوم في مواجهة معركة متعددة الأبعاد تخوضها وكالات استخبارات مختلفة (قبل أسبوع وافق الكونغرس على تمرير ميزانية بقيمة 55 مليون دولار في سياق تمويل الحرب الناعمة ضد إيران)، وتستهدف «البيئة المحيطة» بالمقاومة خاصة، بحسب تقرير وضعه الرئيس السابق لوحدة الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية العميد احتياط يوسي كوفرفاسر في نشرة مركز دراسات الأمن القومي الصادرة في آب 2009. وكان لافتاً مثلاً أن العميد الإسرائيلي تطرّق، في معرض حديثه عن أدوات المعركة الجديدة، إلى وجود ما يزيد عن 18 موقعاً على شبكة الإنترنت تابعة لحركة حماس، فيما لا يدير حزب الله سوى 8 مواقع إلكترونية (وقع الباحث الإسرائيلي في الالتباس على ما يبدو، فضمّ مواقع فردية تهتم بأخبار المقاومة وفعاليتها إلى لائحة مواقع حزب الله!).
معركة الوعي هذه في صلب اهتمام علماء الاجتماع في الغرب. ففيما يفترض علم الاجتماع تقليدياً أن «المقاومة هي مقدمة الثورات»، يدرس باحثون أميركيون في الدوافع التي تحفّز الفرد «على التورط في نشاط ثمنه باهظ» بالمعنى السياسي والمادي. في هذا السياق، يسلط عالم الاجتماع الأميركي دوغ ماك آدم، في بحث نشرته فصلية «أميركان جورنال أوف سوسيولوجي» في عددها الصادر في تموز 1986، على أهمية الرسائل الإعلامية في تعزيز هذه الدوافع بالنسبة للمنظمات الإسلامية.
واستناداً الى رأي العلم، تفترض مواجهة «معركة الوعي» المتعددة الأبعاد إيجاد آليات تنفيذية ومؤسسات لحفظ ذاكرة حزب الله بمقاربة إعلامية متطورة تغذي دائماً عقيدة المقاومة في نفوس الأفراد «المتورطين» أولاً وأخيراً في هذا الحراك الاجتماعي.
في مقدمة خطوة كهذه، تبرز أهمية الدراسة والتخطيط، تماماً كما هو المنهج المتبع بالنسبة للآليات التي يدرس بها أعداء حزب الله الحزب نفسه.
قبل اغتيال الحاج عماد مغنية بأشهر قليلة، موّل كل من مكتب الأبحاث العلمية في سلاح الجو الأميركي ووزارة الأمن القومي ومكتب أبحاث الجيش وجمعية العلوم الوطنية الأميركية دراسة، وضعها علماء في السياسة والحاسوب في جامعة «ميريلاند» تحت عنوان «عوامل نموذجية المقاومة: حالة حزب الله»، تعالج «تكيُّف وتصرف» الحزب تبعاً للظروف المختلفة من «زوايا لن يلتفت إليها خبراء حزب الله»، بهدف استقراء ردة فعل «المنظمات الإرهابية» إزاء التطورات والتغيرات التي تؤثر عليها.
يومها، تكفلت كلية البحرية الأميركية في كاليفورنيا بمراجعة نتائج الدراسة ونشر ملخص عنها يتناسب وسياسات الأمن القومي الأميركي. توصل الباحثون الأميركيون إلى 14 ألف استنتاج عن حزب الله، إلا أنّ ما سمحت الاستخبارات بنشره لا يتعدى التسع صفحات.
وبغضّ النظر عن أهمية الاستنتاجات التي خرجت بها الدراسة، فإن الآلية التي اعتمدتها الجامعة للوصول إلى الخلاصات المطلوبة تستحق التقدير فعلاً. شارك في وضع برنامج الحاسوب المخصص للدراسة المحلل الإسرائيلي في الشؤون الاستخبارية آهارون مانس. أطلق القيمون على الدراسة اسم «سوما» على النظام بهدف «حساب فرضيات أو احتمالات تصرف لدى جماعة في ظرف معين».
وهكذا قدم برنامج الحاسوب أجوبة عن أسئلة ومعطيات افتراضية من قبيل: متى ينفذ حزب الله عمليات عابرة للحدود؟ متى يدخل حزب الله في حرب أهلية؟ متى يقرر حزب الله تنفيذ عملية أسر؟ متى «تملّ البيئة الحاضنة لحزب الله من كونه العدو الأول لإسرائيل»؟ إضافة إلى غيرها من مئات الأسئلة والفرضيات، التي مثّلت التوصيات الرئيسية للدراسة. ولئن يعترف المحلل الإسرائيلي بدقة حكمة شائعة لدى الخبراء العسكريين مفادها أن «الخطط لا تعني شيئاً. التخطيط يعني كل شيء»، فإنه يشدد على أهمية النتائج التي توصلت إليها الدراسة على صعيد كشف نقاط ضعف «غير عسكرية» في البيئة المحيطة بالحزب، مشيراً إلى قضية إفلاس رجل الأعمال اللبناني صلاح عز الدين والعِبَر التي يمكن استخلاصها.
في الخلاصة، يقود أعداء حزب الله حالياً حرب أفكار ضده. والرد الأنجع على هذه الحرب يكون بالتمسك بالقيم والمبادئ الرئيسية التي قامت عليها المقاومة. يبدو الوقت مناسباً كي يفتح حزب الله خزائنه ليرسّخ بعناصر الفنون السبعة تلك القيَم.
* إعلامي لبناني