سعد الله مزرعاني *تستعيد التصريحات التي صدرت بعد اليوم الأوّل من القمة السورية ـــــ السعودية، مناخات العلاقات العربية ـــــ العربية ما قبل الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وعدوان تموز الإسرائيلي عام 2006 على لبنان، وقمة دمشق البتراء عام 2008... إنّها تستعيد مناخات قمة بيروت عام 2002 ومبادرتها السعودية (باسم الملك عبد الله نفسه حين كان وليّاً للعهد آنذاك) التي كانت تعكس أجواء تقارب سوري ـــــ سعودي استمرّ قائماً على هذا القدر من الرسوخ أو ذاك، منذ اتفاق الطائف عام 1989.
صحيح أنّنا نقرأ في التصريحات ما يشبه كلام المجاملة حيال التزام مشترك بقضايا الأمّة أو ببعض هذه القضايا. ونقرأ فيه أيضاً تكرار ما يمكن تسميته “اللغة الخشبية” في الحديث عن القدس وحصار الفلسطينيّين والعلاقات العربية العربية... لكنّ الصحيح أيضاً أنّ ثمّة جديداً حقيقيّاً في حصول الزيارة وفي بعض نتائجها، قياساً على ما كان سائداً طوال السنوات الستّ المنصرمة.
والواقع أنّ تاريخ التأزّم في علاقات قيادتي سوريا والمملكة العربية السعودية، يعود إلى تباين الموقف الفعلي بين الطرفين حيال الغزو الأميركي للعراق، وخصوصاً بعد حصول الغزو. ففي هذا الحقل حصل التناقض ما بين موقف طرف (سعودي) تبنّى أهداف الغزو في معظمها، وطرف آخر (سوري) رفض معظم أهداف ذلك الغزو. والمفارقة الطريفة هنا، أنّ النظامين السوري والسعودي، قد استُهدفا بهذه الطريقة أو تلك، من خلال العدوان الأميركي على العراق. لكنّ استهداف النظام السعودي (تحت شعار الديموقراطية) كان مؤقتاً. وهو انتهى سريعاً بعد تعثّر المشروع الأميركي في مراحله الأولى تحت وطأة المقاومة العراقية، ليستقبل الرئيس الأميركي السابق (وبطل الغزو) جورج بوش، الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، في مزرعته، مطمئناً إيّاه إلى حرص واشنطن على نظام المملكة والعلاقات مع هذا النظام، وذلك عبر إقامة حلف “المعتدلين العرب” برعاية واشنطن وبدور أساسي للمملكة في هذا الحلف، الذي يتضمّن بشكل شبه علني شريكاً جديداً هو القيادة الإسرائيلية!!
خرجت قيادة المملكة على تقليد عُرفت به دبلوماسيّتها: تجنُّب العمل المباشر، وتجنّب المواجهات السياسية والإعلامية
يرى البعض، من قبيل المكابرة (بيان لجنة متابعة 14 آذار)، أنّ زيارة الملك السعودي إلى دمشق “تأتي في سياق الجهد السعودي المبذول منذ أشهر لتوحيد الصفّ العربي وإعادة تكريس العمل العربي المشترك واستعادة سوريا إلى الاستراتيجية العربية المتمثّلة في مبادرة السلام العربية”. قلنا مكابرة، لأنّ الأمور ليست على هذا النحو. أوّلاً، لأنّ المملكة هي التي غادرت “العمل العربي المشترك” و“مبادرة السلام العربية”، بعدما التحقت بالكامل بالخطة الأميركية وبموجبات هذه الخطة، وخصوصاً حيال الدول المعترضة عليها، ومنها سوريا. والتوتّر بين البلدين نجم عن ذلك، لا عن أحداث بعينها، مثل اغتيال الشهيد رفيق الحريري، أو الموقف من عدوان تموز عام 2006، أو الموقف من قمة دمشق عام 2008، أو الموقف من أزمة لبنان ومن صراعات فرقائه، ومن حكوماته...
واتّساقاً مع ذلك، وربطاً بما آل إليه المشروع الأميركي الذي قاده الرئيس الأميركي السابق جورج بوش و“المحافظون الجدد”، من تعثّر وإخفاق في العراق وفي المنطقة وفي واشنطن نفسها، يتضح أنّ الذي “عاد” إلى “العمل العربي المشترك” هو قيادة المملكة العربية السعودية، لا القيادة السورية (هذا بمعزل عن الموقف من “العمل العربي المشترك”، ومن شروطه، ومن متطلّباته). ونكرّر هنا ما هو معروف تماماً، من أنّ قيادة المملكة، باستثناء مرحلة توتّر محدودة مع الإدارة الأميركية السابقة، قد انخرطت في المشروع الأميركي، ووظّفت في خدمة متطلّبات نجاحه، كل إمكاناتها وعلاقاتها، وخصوصاً، على المستوى اللبناني. وأدّت قيادة المملكة دوراً مؤثّراً في توتير العلاقات السورية ـــــ اللبنانية، وفي استخدام بعض اللبنانيّين والسلطة اللبنانية، في مهمة الضغط على النظام السوري، من أجل إسقاطه إذا أمكن، أو تطويعه إذا تعذّر إسقاطه.
في مجرى الصراع الكبير في المنطقة تبلورت أو نشأت أو تكرّست محاور. وقد تصارعت هذه المحاور على أشدّ ما يكون الصراع في كلّ المجالات تقريباً: من حرب تموز إلى حروب الاغتيالات، إلى صراع أجهزة الاستخبارات، إلى إشعال حروب العصبيّات المذهبية، إلى الصراع على القمة العربية ومكانها ونتائجها... ولقد كان بلدنا، كما أشرنا سابقاً، إحدى أكثر ساحات هذا الصراع تفجّراً واشتعالاً ودمويّة... حتى إنّه بدا ساحة الفعل الأساسية الثانية، بعد العراق، لمشروع “الشرق الأوسط الجديد”.
ويجب أن نضيف هنا، إنّ قيادة المملكة (وخصوصاً من بينها القوى الأكثر ارتباطاً بالإدارة الأميركية) قد ذهبت بعيداً في انخراطها في المشروع الأميركي. وهي حاولت على ما يؤكد مسؤولون عراقيون نافذون، استنفاد مشروع الغزو الأميركي حتى نهاياته، تحقيقاً لأغراض إقليمية خاصة. ويذكر هؤلاء المسؤولون العراقيون أنّ قيادة المملكة كانت الأكثر تشدّداً في عدم إقرار مشروع انسحاب أميركي وفق جدول زمني، بدأت تفرضه معطيات الواقع العراقي نفسه على المحتلين، بعد فشلهم في السيطرة على الساحة العراقية خصوصاً. وكانت قيادة المملكة تخرج بذلك، على تقليد عُرفت به دبلوماسيتها: تجنّب العمل المباشر، وتجنّب المواجهات السياسية والكلامية والإعلامية، واستخدام ما لدى المملكة من إمكانات مادية هائلة في سبيل إحداث تعديل أو تبديل في موقف هذا الخصم السياسي أو ذاك...
ويُسجّل في هذا السياق من استنفاد قدرات الأميركيين ومشروعهم الشرق أوسطي الجديد أو الكبير، حصول العدوان الصهيوني على قطاع غزة في نهاية العام الماضي. ولقد كان هذا العدوان آخر حلقة في مسلسل الغزو والحروب التي خاضها المحافظون الجدد وحلفاؤهم الصهاينة. لكنّ هذا العدوان، رغم ضراوته وهمجيته، فشل هو الآخر، في تحقيق الأهداف الأميركية والإسرائيلية (وأهداف “محور الاعتدال” العربي أيضاً) المتوخّاة منه، وتكرّس نهائياً، مع الفشل الصهيوني، أفول مشروع “الشرق الأوسط الجديد” بوصفه مشروعاً للتوسّع والهيمنة الأميركية والصهيونية بوسائل القوة والغزو والإجرام والإرهاب، وطُويت صفحة هذا المشروع
نهائياً.
وليس صدفة، في هذا السياق، أنّ الملك السعودي عبد الله، أطلق مبادرته الوفاقية في قمة الكويت الاقتصادية بُعيد الغزو الصهيوني لقطاع غزة، وبعد فشل هذا الغزو. قد يكون الملك، أيضًا، وجد في التطوّرات الدراماتيكية آنذاك، ما يمكّنه أيضاً، من أن يؤكّد بعض تمايزه عن الفريق الأكثر ارتباطاً بالسياسة الأميركية، في قيادة المملكة. فالرجل حريص، كما بدا من خلال بعض مواقفه الداخلية والخارجية السابقة، على إضفاء شيء من اللون القومي على توجّهاته. لكنّ الأساس في إحداث التحوّل المذكور، كان الفشل الأميركي، ومعه الفشل السعودي في المراهنة على المشروع الأميركي.
يمكن القول في خلاصة مفتوحة عن تطوّرات أساسية في المنطقة وفي لبنان، إنّ حرب غزة كانت آخر حروب “مشروع الشرق الأوسط الكبير” الأميركي، وزيارة الملك عبد الله إلى دمشق، كانت أوّل التحوّلات الجوهرية في مرحلة ما بعد فشل ذلك
المشروع.
* كاتب وسياسي لبناني