إلى أبي شادي *
ارتسمتْ على وجهك معالم الخيبة وأنت تَفْتَحُ عينيك على جريدة الصباح، لتقرأ نعيا لرفيق خاصرك في المظاهرات المطلبية في الزمن النضالي الجميل، فلم تجد اسما انتظرته ولا نعياً حسبته جميلا. الحزبُ والقريةُ والطفولةُ الثائرة، كلها غيّبها النسيان. رجال قليلون كانوا معك. تساقطوا من سبّحة الزمن، بعد أن قاوموا جشع الاحتكار، وسماسرة البشر.

كلهم مثلك يوم موتك، رحلوا بصمت بعد أن كان وجودك معهم مدويا. كنتَ طالبا عندما امتشقت حجرا في مدرسة عيترون، وصرخت بوجه احتكار الريجي واجراءاتها التعسفية عام 1968، اعتقلتَ آنذاك مع ثلة من الشجعان، وأنت على مشارف الحلم. تقلبت فيك أوجاع الناس فتحسستها، وكنت المندفع دوما نحو الإصلاح والعدالة المجتمعية.
تنقلت من بعث تنويري عربي؛ يحلم بفلسطين محررة وأمة عربية خالدة، إلى حزب أممي أحمر، عماده البروليتاريا وأنت منها، مزارع تبغ وابن مزارع، مدرّس أجيال ومحرض طبقيّ. التقيتك مراراً ورائحة تبغ عيترون لم تبارحك، وكأني اكلمك في حقل تبغ أحمر. مرارة كلماتك حينما أسلتَها تاريخاً لحركة نقابية زراعية أفِلَتْ، كانت كافية للبكاء على أطلال نضال اطفأتْ جذوته السنون، وشوّهتْ معالمه حرب المحتكرين ورعاتهم الإقليميين والدوليين عام 1975، فكسرت إرادة رفاقك الوطنية لصالح مشاريع طائفية ومذهبية. وبعد سنين من الطحن والدمار وتشويه الذاكرة والأجيال، جاء الطائف ليوقف حرب المدافع والأسنّة والرماح، لكنه أعاد للبنان صيغته الفريدة؛ الشراكة بين المحتكرين والإقطاعيين الجدد، أصحاب المشاريع المشبوهة وقادة المحاور والميليشيات. فلم تجر عليك القسمة، ولم تطبقْ على امثالك القاعدة «الغنم والغرم»، لكنّ قامتك الطويلة وجسمك النحيل، وإباءك الكبير، دفعوك للمضي قدماً في النضال النقابي.
لم تحرفك ادارتك لأحد فروع تعاونيات لبنان عن المطالبة بحقوق موظفيك وعمالك. حرصت على مصداقيتك وشفافيتك وإخلاصك لعملك ومبادئك، وكأنك فدائي على جبهة، لكن حيتان المال، ابتلعوا كل شيء، وبقي حلمك بتأسيس نقابة لعمال وموظفي التعاونيات أسير أكداس الورق على مكتبك، فخرجت أو أخرجت بخفي حنين.
لم تشعر بيد حزبية حمراء تشد عضدك، ولا التفاتة من أحد الرفاق تعيد لمنجلك مطرقته. فجلستَ تمنّي النفس كل يوم بشريط ذكرياتك، من عيترون البداية فدمشق فغور الأردن فالاتحاد السوفياتي... «آه ما أجملك يا موسكو»، هكذا ظللت تردد وانت تمسك بعصا أمل جديد، ما برح يعاقرك كخمرة معتقة.
ما أجملَكْ حينما كنت تسرد لي حبك للمقاومة الإسلامية، وتتورد وجنتاك بذكر قائدها ومجاهديها. ما أصدقك حينما تمنيت أن تحمل سلاحا لتحارب مجددا تحت رايتها، وأنت الماركسيّ اللينينيّ المشبَع وعياً طبقيا وانتماء علمانياً.
خاسرٌ من لم يعرفك، وجاهل من عرفك ولم يعطك حقك بالخلود. تأخرت في نعيك، فوحيُ الكلمة أبطأ في نزوله، وأنت كما عرفتك «عليّ» في عفتك ودماثة خلقك وإقدامك.
عذرا علي عيسى.
*علي حسين عيسى (1946ــ2015) مناضل سياسي ونقابي جنوبيّ
طليع كمال حمدان