في كلّ مواجهة مع الاحتلال يطوّر الفلسطينيون أساليب الصراع، ولا يسمحون للأحداث بأن تتجاوزهم وتضعهم في خانة الماضي. هذا الفهم يترافق دائماً مع وعي مطابق للواقع وتحوّلاته، بحيث لا تبدو الأدوات المُستخدَمة في الصراع منفصلة عن السياق الذي تتشكّل من خلاله. بهذا المعنى يُستعاد الخطاب الثوري هناك في ظلّ متغيرات قضت على كلّ السياق الذي كان يسمح بتسليط الضوء على القضية الفلسطينية وربطها بقضايا المنطقة. في هذه المرحلة تحديداً تحصل «المواجهة الفاصلة» ويمسك الفلسطينيون بقضيتهم كما لم يفعلوا من قبل.
هم الآن يواجهون الاحتلال وحدَهم، ولا يحظَون حتى بالتعاطف الصُوَري الذي كان يقدّمه المحيط العربي لحفظ ماء الوجه والتخفيف من وطأة تعامله - وخصوصاً على مستوى الحكومات والنظم - مع الاحتلال. وهذا يفرض عليهم أن يكونوا أكثر واقعية في مجابهة تخلّي المحيط عنهم، بمعنى أن يحوّلوا هذا التخلّي الذي لا يقدّم ولا يؤخّر شيئاً إلى فرصة بدلاً من أن يكون «عبئاً عليهم».
العبء هنا قد يكون مرتبطاً بحسابات الفصائل والأحزاب المرتبطة بهذا النظام العربي أو ذاك (فتح، حماس، الجهاد، الحركة الإسلامية، التجمع... الخ)، والتي كانت دائماً هي المرجعية السياسية للحركة الجماهيرية. حالياً وفي ظلّ حالة الانهيار التي تصيب المنطقة تبدو تدخّلاتها أقلّ من السابق، وإن تدخّلت فلكي تحدّ من تأثير «الهبّة» على «قواعدها المتآكلة» ليس إلا. يحدث ذلك في الضفّة مع السلطة وفي أراضي الـ48 مع أحزاب التجمع والجبهة، وبدرجة أقلّ مع حماس والجهاد في غزة. وهذا مفيد للمواجهة عموماً على الرغم من طابعه الذي لا يبدو سياسياً كفاية. معيار السياسة هنا ليس كما يبدو ظاهرياً، فهو لا يرتبط بالفصائل وقدرتها على الحشد والتنظيم بقدر ما يتصل بالقدرة على قراءة الواقع السياسي والتحرّك في ضوء ما يفرضه من موازين قوى بين الاحتلال والثائرين. حركة اليافعين والشباب توحي بأنهم يعون هذه المعادلة جيداً ويحاولون ما أمكنهم تطبيقها على الأرض، فهم يعرفون أنّ قدرة الاحتلال على الاشتباك تنتهي عند حدود مدنه ومستوطناته، ولذلك قرّروا نقل المعركة إلى هناك رغماً عن إرادة الفصائل التي لم تكن لتسمح لهم بفعل ذلك لو تُرك القرار لها.
هي أصلاً السبب الرئيسي في تقييد عمل كلّ الانتفاضات السابقة وربطها بالتفاهمات التي غالباً ما كانت تصبّ في مصلحة السلطة أو الاحتلال. انحسار تأثيرها الآن سمح للثائرين من مختلف المشارب و»المرجعيات السياسية» بالتقدّم أكثر صوب الاحتلال ومستوطناته الرئيسية، فأصبحنا نرى عمليات في قلب القدس المحتلّة، إلى درجة بدأ فيها النقاش صهيونياً حول عزل أحياء معيّنة في القدس والتخلّي عن فكرة إبقائها موحّدة تحت حكم الاحتلال. لم يكن ذلك ليحدث لو لم يتطوّر الاشتباك مع الاحتلال وينتقل إلى مرحلة المساس الجسدي المباشر بمستوطنيه، فحالة الطعن هنا تصبح هي التعبير المباشر عن انتفاء المسافة التي كانت تحول بين الثائرين وأهدافهم سواءً كانت «مدنية» أم عسكرية (لا معنى هنا لأيّ نقاش حول التمييز بين المدنيين والعسكريين الصهاينة فهذه في ظلّ الوضع الحالي ثنائية مصطنعة ولا تعبر في أي حال من الأحوال عن منطق الصراع الذي يمتلك ديناميته الخاصة به). وهذا يعود لتراجع الكوابح السياسية والاجتماعية التي كانت تقيّدهم وتبقيهم عند حدود الاشتباك الصُوَري وغير الفاعل بما فيه الكفاية.
والفعالية هنا لها معنى سياسي واضح، فمنذ بدء عمليات الطعن والالتحام المادّي والمباشر بالمستوطنين عمّ الذعر كلّ نواحي الحياة في «إسرائيل» وبدأ الناس هناك يفقدون الثقة بقوّات الشرطة والجيش، وبقدرتها على حماية المجتمع الصهيوني من العمليات الفردية التي يقودها الثائرون. عندما يحدث ذلك في «إسرائيل» فهذا يعني أن الفعالية السياسية للطعن بالسكاكين «تفوق في تأثيرها» أفعال المقاومة التي أجبرت مستوطني القرى المحيطة بغزة العام الماضي على الرحيل من منازلهم باتجاه الجنوب. حينها كانت عمليات الاشتباك التي تجري بين المقاومة والاحتلال بعد الخروج من الأنفاق المؤدية إلى أطراف المستوطنات هي السبب في حدوث هذا الذعر.
ولكن الإعداد لتلك العمليات كان يستغرق أشهراً طويلة ويتطلّب إعداد مئات الكوادر وتأهيلها لخوض حروب الأنفاق وإتقان تكتيكاتها الصعبة والمعقدة، بينما لا يستغرق الإعداد لعملية الطعن الآن سوى دقائق معدودة يجري خلالها رصد حركة المستوطن الهدف وتعقّبه لكي تحصل العملية على أكمل وجه ولا تفشل في إحداث التأثير المطلوب منها على المجتمع الصهيوني. في كلا الحالتين يحصل تأثير على بيئة الاحتلال الاجتماعية ويدبّ الذعر في أوصالها، ولكن عمليات الطعن تتميز بالمرونة والقرب من الحيّز الاجتماعي الذي يسيطر عليه الاحتلال بشكل مباشر، ولذلك فهي تسمح أكثر من أعمال المقاومة الاعتيادية بتوسيع إطار الاشتباك وضمّ مختلف الفئات الاجتماعية الفلسطينية إليه. هذه المرونة في العمل واختيار الأهداف بدأت تنعكس مباشرةً على واقع الاحتلال، إذ بدا واضحاً فقدان هذا الأخير لسيطرته على الأحياء العربية داخل القدس، وعدم قدرته بفعل هذا العجز في الداخل على إنهاء الاشتباكات التي تحصل عند الحواجز في الضفة الغربية وغزة.
هو لم يعد قادراً بفعل تعدّد الجبهات وانتشارها على مساحة فلسطين كلّها على السيطرة، وفقد بالإضافة إلى ذلك إمكانية الاستفادة من هدوء الداخل وجبهات الضفّة التي تكون في العادة مستقرّة أكثر من سواها وخاضعة كلياً أو جزئياً لسيطرة السلطة والأحزاب العربية في الكنيست. تعدّد الجبهات هذا قاد عملياً وبفعل تنوّع البيئات الاجتماعية التي تقوده إلى انخراط «فئات جديدة» في العمل الميداني، فعادت الفتيات إلى ساحة المواجهة في الضفّة وغزّة بعد سنوات من انحسار وجودهن المباشر والمادي عنها، وهو ما أضفى على المشهد تنوعاً أكبر وجعل فاعليته مرتبطة بالمجتمع وحيويته أكثر منها بطبيعة الفعل نفسه.
وكذا الأمر بالنسبة إلى فئة اليافعين التي شكّلت عماد هذه الهبّة، فوجود هؤلاء الشبان كان دافعاً للاستمرار في الانتفاضة على الرغم من جسامة التضحيات التي قُدّمت والتي ارتبطت مباشرة بهم وبتفانيهم في التصدّي للاحتلال ومستوطنيه ووقوفهم الدائم في الصفوف الأمامية للاشتباك. هم كانوا بمعنىً ما وقود هذه الهبّة وان لم يمتلكوا بفعل حداثة سنّهم الوعي السياسي الكافي لربطها بالأحداث الجارية حولهم. هذا إذا افترضنا أن الوعي المرتبط بالعمل الفصائلي أفضل من حيث النضج والمطابقة بين الواقع والأدوات المستعملة لتغييره، وهو ليس كذلك بالطبع، حيث تبدو الفصائل حالياً منقطعة عن الواقع فيما الشبان يصنعون الحدث ويتقدّمون بقوة الفعل وحده على معظم القوى التي لا تزال تُخضِع العمل الميداني لحسابات لا علاقة لها بمنطقه المباشر والمادّي.
هذا المنطق لا يحتقر السياسة كما يعتقد الفصائليون وإنما يُخضِعها لأولوياته التي تتمثّل في تدفيع الاحتلال ثمن حماية المستوطنين وتوظيفهم في معركة تغيير معالم القدس والضفّة وزرعهما بالمستعمرات. استهداف المستوطنين بهذا المعنى هو فعل سياسي قبل أن يكون نضالياً أو استشهادياً، فهؤلاء يمثّلون الآن «الحلقة الأضعف» في منظومة الوجود الكولونيالي وحين ينال منهم الثائرون الشبان فإنهم عملياً يكونون قد أصابوا الاحتلال في مقتل، وان لم يستطيعوا المحافظة على وتيرة هذا الاستهداف لفترة طويلة. هنا يأتي دور القواعد الفصائلية التي انحازت للانتفاضة على حساب قياداتها، فوجودها إلى جانب الثائرين الشبان سيسمح باستمرار الهبّة ولن يدعها تحت وطأة ردود الفعل على بطش الاحتلال فحسب.
الغطاء الذي ستؤمّنه هذه المجموعات المسيّسة والمدرّبة على العمل التنظيمي والسياسي المرتبط بالميدان لن يحمي العمليات الفدائية من ردود الفعل التي «قد لا تكون مناسبة» فحسب، بل سينظّر لها على المستوى الإيديولوجي ويرفعها إلى مصاف الأعمال البطولية، وبذلك يكون قد أكسبها شرعية سياسية فوق تلك الشعبية التي قد حازتها أصلاً.
هذا سيسمح مستقبلاً في حال «انتهت الهبة» أو «تراجعت» لأسباب معينة بحدوث تراكمات على مستوى الفعل النضالي، بحيث لا يكون هنالك انقطاع في الخبرة الميدانية وتبقى هذه التجربة ماثلةً في الأذهان بوصفها مرجعية ثورية لا تقلّ عن مرجعية الانتفاضتين الأولى والثانية في المخيلة السياسية للشعب الفلسطيني. أهمية المرجعية تكمن دائماً في إمكانية الاحتكام إليها حين تشتدّ المواجهة مع الاحتلال، فعندما اندلعت أحداث أكتوبر الحالية تذكّر الناس في الضفّة وغزة والقدس مباشرةً اختطاف الشاب محمد أبو خضير العام الماضي والتنكيل بجثته من جانب المستوطنين، وتم استحضاره مباشرةً كرمز من رموز هذه الهبّة إلى جانب آخرين مثل الشهيدين مهند حلبي وفادي علوان اللذان أطلقا شرارة الانتفاضة الحالية. الأمر لا يتعلّق بكيفية استحضار الرموز بل باستعادة السياق كاملاً وعدم ترك أيّ تفصيل مرتبط بشهادتهم للصدفة، حيث يصبح كلّ فعل أو حركة مهماً بذاته وضرورياً لبناء السياق الذي سيتحوّل يوماً ما حين تنتصر الانتفاضة إلى مرجعية بديلة من الوضع القائم بكلّ تفاهته وعمالته للاحتلال.
مرجعية لها أبطالها وشهداؤها ورموزها وتنظيماتها السياسية واستراتيجياتها للنضال وبناء التحالفات و»التفاوض» عندما ينتهي الاحتلال وتُزال مستعمراته من الوجود. وإذا كان من انجاز قد حقّقته انتفاضة السكاكين فهو الشروع في بناء هذه المرجعية عبر استقطاب القواعد الفصائلية وخصوصاً في اليسار، وجعلها تنفصل تماماً وبشكل لا عودة عنه عن المنظومة القائمة. هذه القواعد تخوض الآن معارك على مستوى الأرض والفضاء الافتراضي دفاعاً عن فكرة العمليات الفدائية، وتمهيداً لاستعادتها إلى قلب الفكر السياسي الفلسطيني بوصفها انجازه الأكبر والأهمّ بعد المقاومة العسكرية التي حرّرت غزة وحمتها من الاعتداءات الصهيونية المتكررة.
* كاتب سوري