تساؤلات متعددة تطرح عن التباس المعايير السياسية، وتفسير أسبابه. فقد راجت في معمعة الأحداث السورية عدة شعارات ظلت ثابتة منذ بدء الأحداث وحتى اليوم، وطرحت الشعارات كمعايير أشبه بالمنزَلة، أو النبوءة، كأنه كان لا بد منها، ومن الوصول إليها مهما كانت الظروف والتطورات. ومن أبرز هذه الشعارات التي باتت ثوابت لا رجوع عنها مهما كان الثمن لدى البعض، هو رحيل الرئيس السوري بشار الأسد.
من بديهيات الأمور أن تطرح كل جهة خطتها وأهدافها في الحرب. ومن حق كل طرف أن يطرح ما يريد، حق مفروض فرضاً بقوة السلاح، ولا يعطيه أحد. وكان من بديهيات الصراع، وفق وجهة النظر التقليدية الرائجة، أن تطرح المعارضة السورية - بغض النظر عن طبيعتها وتكوينها وامتلاكها للشرعية الشعبية - إسقاط حكم بشار الأسد، فكل صراع - وفق المعايير التاريخية - هدفه الإمساك بالسلطة، والمعيار البديهي الأهم أن المنتصر هو الذي يفرض شروط الحل.
خمس سنوات مضت، وكانت التطورات الميدانية في كرٍّ وفرّ، أحياناً يتقدم هذا الطرف، وأخرى يتقدم ذاك، ويتراجع هذا. لكن شعار إسقاط الأسد ظل على الوتيرة عينها، دون تقدم ولا تراجع. كان النظام ينهزم في بعض المواقع، ويتراجع الجيش السوري، فترتفع الأصوات منادية برحيل الأسد. ربما كان الأمر مفهوماً بهذه اللحظة من الصراع، رغم أنه لم يكن قد وصل إلى خواتيم محددة، ولم يكن من مؤشرات على تعميم انكسار موضعي آني على المشهد العام للصراع.
بمعنى آخر، إنه في ظل تحقيق انتصار موضعي في معركة من المعارك، في الوقت الذي لا تزال فيه المعارك في كافة المواقع الأخرى مندلعة على أشدها، واختلال ميزان القوى العام لم تتظهَّر معالمه بعد، كانت ترفع شعارات سقوط الأسد ورحيله، والبحث عن مكان «آمن له ولعائلته»، وتفصيلات أخرى.
وصل العالم إلى تحولات قد لا يكون هناك رجوع عنها

إلا أن اللحظات السياسية من الصراع واندلاع المعارك، لم تكن في مصلحة المعارضة إلا قليلاً، وربما نادراً، وفي مواقع موضعية ضيقة ومحدودة، دون أن تؤثر في المسار العام للمواجهة. لكن ذلك لم يثن المعارضة، بكل أطيافها، المُراوحة بين الرافعة للديموقراطية أو المهددة بالعمليات الانتحارية، عن رفع شعار رحيل الأسد.
مشهد أركان فصائل المعارضة تطالب برحيل الأسد أكثر ما تكرر في المؤتمرات الدولية لبحث مصير سوريا. وفي غالب الأحيان، لم تكن المعارضة محققة لانتصارات تؤهلها للمطالبة بترحيل الأسد، ولئن كان من بديهيات الأمور أن تطالب بذلك لفظياً وكلامياً، فليس من يحاسب على الأغلاط اللغوية بينما البندقية لا تزال مشتعلة، وفوهتها تحدد من يمسك بالسلطة. وقد فهمنا الموقف المتكرر في مختلف المؤتمرات التي استضافت البحث في مصير سوريا، ومعروفة تفسيراته الكاريكاتورية، أن المتحدث ليس ميزان القوى الميداني، بل الدعم الدولي للمعارضة «المستقلة» في قرارها، وانتمائها، وتمويلها، وتحديد أهدافها الذي لا يستطيع أن يصل إلى أي نتيجة يريدها، أو أي مبتغى من مبتغاه.
مواقف مكشوفة يمكن القول عنها إنها تنتهك المفاهيم التاريخية لشروط الصراع، وتنتهك عقول البشر والمنطق الذي تسير وفقه التطورات، وتنتهك في الوقت عينه أدبيات الثورة، والنهوض بها من خلال القوة الذاتية، حفاظاً على وطنيتها، وعلى أن لا تتهم بالعمالة للخارج. مواقف أطلقت ولا تزال تطلق، في ظل موازين قوى ليست في مصلحة المعارضة، تحمل في طياتها أبعاداً مختلفة. فمن جهة هي رفع للمعنويات بأساليب غير واقعية، وهي عدم رضىً عن طروحات حل ليس فيه مصلحة المعارضة، ومن يقف وراءها من دول، وهي، وهنا الطامة الكبرى، تأكيد لارتباط هذه القوى بقوى أخرى خارجية، تخرج اللعبة السورية من إطارها المحلي إلى الإطار الدولي، وتنفي الهوية الوطنية لمعركة المعارضة، وأهدافها.
إلا أن التطورات الأخيرة أفضت إلى أمور أخرى حاسمة لم تعد تحتمل النقاش، وهي انقلاب ميزان القوى بصورة تامة لمصلحة النظام السوري وتحالفه، لكن ذلك لم يوقف شعارات رحيل الأسد من قبل خصومه المحليين والدوليين، ولا تزال تتردد شعارات أن الحل يجب أن يكون من دونه، أو أن الحديث يجري عن حكومة انتقالية ليست برئاسته، ولا بوجوده، في الوقت الذي تتقدم فيه قواته على مختلف المحاور، معيدة الإمساك بالسلطة على الأرض في بقع واسعة افتقدتها قوات النظام الرسمية في تطورات الهجوم الضاغط الذي شنته قوى عسكرية خارجية بدعم دولي وإقليمي كبير لبضع سنوات خلت.
لم يعد خافياً وصول العالم إلى تحولات قد لا يكون هناك رجوع عنها، قوامها تقدم محور العالم الشرقي بما يضم من دول وقوى، مع توقع تطوره نحو الأقوى، ومحور الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ومعها أوروبا وأنظمة عربية متعددة، ومراوحته في أزماته، إن لم نقل تراجع أوضاعه إلى الوراء، وتفاقم أزماته دون بروز حلول ناضجة تنقذه، وتخرجه من تخبطه في أوحاله الاقتصادية والعسكرية وانعكاساتها على واقع مجتمعاته الداخلية. وفي هذه المعادلة، ليس عليه إلا عرقلة مسار أي حل، ولو تمثل دور القابل به، والمنخرط في تطورات يفرضها عليه شرط التفاوض على الحل، مثل ادعاء مشاركته في ضرب «داعش» و»النصرة» وقوى عسكرية أخرى، وإن هي إلا مشاركة رمزية تعزز وضعيته التفاوضية ليس إلا.
لكنه في هذه الظروف المحيطة به من الضعف، لا يزال يرفع شعار رحيل الأسد لأنه بانتظار انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية التي لن تأتي بجديد، ولا تمتلك العصا السحرية لحل الأزمات التي يتخبط فيها هذا المحور، لكنه يصر على الطرح الذي لا نرى فيه إلا محاولة الهروب إلى الأمام، وتأجيل الحل.
المحور الغربي يتخبط ويؤجل، وفي مناشدته رحيل الأسد يطبق المثل الشعبي القائل: «قم عني لأقتلك». وينقلب ميزان القوى، والجيش السوري يتقدم باتجاهات مختلفة، والأسد يلقي بقبضة أقوى على السلطة، وسوريا تعاود تشكيل ذاتها، ويستمر الأسد رئيس أمر واقع، وترجمة لميزان القوى المختل بالكامل لمصلحته، لكن المعارضة، ومحورها، ستظل تهذي بشعارها: رحيل الأسد.
*كاتب لبناني