يوم كتب الشهيد الروائي غسان كنفاني روايته الأشهر «رجال في الشمس»، لم يترك مجالاً لتأويل النص، وأطلق صرخة «لماذا لم تدقوا جدار الخزان؟».
بعد مضيّ عقود على الصرخة، ماذا تغيّر؟ وأي صرخة تلك في وادي السياسة الفلسطينية الرسمية التي حوّلت المقدس الوطني إلى ساحة من «الاجتهادات» القاتلة وتناثرت الصرخة صرخات لوقف جرح ينزف وينزف منذ عام 1948؟
أدخلت منظمة التحرير الفلسطينية القضية الفلسطينية في سراديب النظام الرسمي العربي، وتساوقت مع حلول تصفية القضية، ووقّعت اتفاق أوسلو في 13 أيلول 1993، ولم يعطها ذاك إلا سراب الوعود، فلا دولة قامت بعد 5 سنوات، ولا البيت الأبيض ضغط على حليفته الاستراتيجية، وأحرق الاستيطان الضفة الغربية ليتضاعف عشرات المرات، ولم يبقَ من 22 في المئة (الموعودة) من أرضنا التاريخية سوى 5 في المئة، إن وجدت. ووفق خليل التفكجي، مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية، أدت الهجمة الاستيطانية منذ تولى نتنياهو الحكم إلى تغييرات جذرية في المشهد الديموغرافي والجغرافي للضفة الغربية، مشيراً إلى أن الفلسطينيين باتوا معزولين في مناطق محدودة جداً من أرض الضفة الغربية، وهي المناطق التي سُميت (أ) و(ب) حسب اتفاقات أوسلو، أي في نطاق المنطقة السكنية للقرى والمدن، وهم يتعرضون لسلسلة من الهجمات من المستوطنين، وليس العكس.
«أوسلو» كارثة
سياسية ووطنية بحق
الشعب الفلسطيني

كارثية المشهد الفلسطيني، أن قيادة السلطة لا تريد أن تتعلم من الدرس، وتواصل لهاثها للجلوس إلى طاولة التفاوض مع نتنياهو، وتقدم حسن سلوكها المتكرر باستقبال السيد أبو مازن لوفود صهيونية في المقاطعة، ومباركة الخامات له، وتفاخره بأنه كل صباح يستمع إلى مطربين إسرائيليين، فضلاً عن موقف السلطة من الانتفاضة الفلسطينية التي تؤرقهم قبل كيان الاحتلال. وحديثه بالحرف، مع وفد صهيوني زار المقاطعة أخيراً، أنه ليس قاضياً ليحكم على جريمة اغتيال الشهيد عبد الفتاح الشريف وقبوله بالقضاء العادل.

كوارث باسم مصلحة فلسطين

لن أدخل في تقويم مسيرة أوسلو التي هي أصلاً كارثة سياسية ووطنية بحق الشعب الفلسطيني، وهذا لا يحتاج إلى كثير تحليل، فالمعطيات على الأرض تقول إن السلطة تشكل اليوم جدار صدٍّ للانتفاضة وحماية أمن الكيان، والتنسيق الأمني عنوان استمرارها. وقال السيد أبو مازن إن التفتيش يومي للطلاب، لمنعهم من حمل السكاكين! وقبل هذا وبعده، وبشكل شبه يومي، يفتخر جهاز الأمن بملاحقته للمناضلين واعتقالهم، وبأن معظم مناطق الضفة التابعة أمنياً للسلطة أصبحت تحت السيطرة، بعد أن أُفرغت من السلاح والمقاتلين.
فُكِّكَت كتائب الأقصى وغيرها، ولوحقت كل السرايا والكتائب والأجنحة المقاتلة (للتذكير). وفي السياق يفتخر هنا ماجد فرج، رئيس جهاز المخابرات العامة الفلسطينية، بإفشال 200 عملية ضد كيان الاحتلال. وآخر التسريبات الخطيرة من مسؤول فلسطيني كبير مسؤولية السلطة في صفقة اليهود اليمنيين. وإن صح ذلك، فهذا يحمل أسئلة تحتاج لأجوبة عن دورها وأي كوارث قادمة.
في الحروب (2008، 2009، 2012، 2014) التي شُنت على غزة، كانت السلطة تراقب وكأنها مستشرق، وتدخل كوسيط لوقف الحرب أحياناً، فضلاً عن تسريبات أمنية على لسان الكثير من قادتها: «ليقلعوا شوكهم بأيديهم». وهنا لا تبعدنا صورة الصخب الحاصلة في موضوع المحاصصات بين حكومتي غزة والضفة، وهما لا تريان سوى مفاتيح السلطة، بعيداً عن قراءة لدورهما في إيجاد قاعدة تجمع كل الفصائل على برنامج يعيد الحقوق إلى الشعب الفلسطيني وقضيته الجوهرية حق العودة.
أسوق كل ذلك ونحن نتابع بازار الوحدة حكومة «الوحدة» بين فتح وحماس واللقاءات المكوكية والأوراق التي تطرح بين الطرفين، واختزالهما لقضية فلسطين في فصيلين.
المتابع سيصاب بحالة من فقدان التوازن لما يجري. فالسلطة التي تتحدث عن الوحدة وعن خيارات الشعب لم ترفع صوتها في واقع الإرهاب الصهيوني بحق أهلنا، ولم تتحرك لدعم الانتفاضة، بل تقمع أي تحرك، وهناك إشارات إلى تعليمات بعدم المشاركة في مسيرات دعم الانتفاضة، ما يرفضه شرفاء فتح.
الأجهزة الأمنية تقوم بدورها على مستوى عالٍ من التنسيق مع الأجهزة الصهيونية، والرئيس يجاهر بذلك.
باختصار، الواقع السياسي اليومي لا يحتاج لمطولات وإنشائيات. إن ما يحصل هو تدهور كبير للسلطة، وتساوق موهوم مع الطروحات لأنظمة رسمية عربية تتآمر على القضية الفلسطينية، وما حالة التجاذب في حكومة «وحدة» وهمية إلا مزيد من الكوارث الوطنية، في ظل غياب أو تغييب لمصالح شعبنا الوطنية وانتفاضته، التي قلبت الطاولة على كل المراهنين على تسويات مع كيان لا يعرف إلا مفهوماً واحداً دولة واحدة موحدة – يهودية خالصة.
هل بقي في الأدراج أوراق لدى السلطة التي أصبحت في مهب الريح؟ هل بقيت مراهنة على وعود أوباما؟ وقد صرّح أكثر من مرة، وعبر وزير خارجيته كيري أيضاً بأن هذا العام ليس عام دولة فلسطينية وفق المقاييس الصهيونية بلا شك؟! وهذا تدركه السلطة التي لم تترك طاولة للتفاوض إلا ذهبت وقدمت تنازلات رفضتها حكومة نتنياهو، التي تتحدث عن توقيع نهائي بإنهاء الصراع عبر بوابة التنازل عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
* كاتب وإعلامي فلسطيني