في كتابه المُعنون "النصر في ستالينغراد"، يذكر المؤرّخ البريطاني المهتم بالشؤون العسكرية جوفري روبرتس مقالاً من الصحافة السوفياتية في ايام المعركة الاسطورية، التي ذهب فيها اكثر من مليوني قتيل من السوفيات، يتحدث عن البطولات اليومية التي ميّزت الشعب والجيش في ستالينغراد الصامدين في وجه الالمان، على ان هذه البطولات باتت حياة يومية وعادية عند الناس المدنيين والعسكريين الصامدين في المدينة بانتظار العون.
ستالينغراد، يتابع روبرتس، شكّلت ما اعتبره الروس آنذاك "نقطة انهيار" (بيريلوم) في مسار الجبهة الغربية (اي "الجبهة الشرقية" بالنسبة إلى الالمان)، كما في مسار الحرب العالمية الثانية. ونقطة الانهيار هنا تعني، بالاختلاف مع "نقطة التحوّل" عند الروس (بوفوروت)، انها محطة من الحرب كان لها الفضل في ايقاف موجة من التطوّرات والامكانيات، في انهيارها نهائياً، وخلق الظروف لتطوّرات مختلفة ان تحصل ودون خط رجعة، وذلك تحديداً لانه تم الانتصار في هذه المحطة. شهد السوفيات معارك خاسرة بعد ستالينغراد، وهي بذلك لم تكن تماماً "نقطة تحوّل" في الحرب بقدر معركة مدينة كورسك (وهي المعركة المفضّلة الثانية عند ستالين مثلاً)، وأخذ حسم الجبهة الغربية وقتاً اطول مما كان في حسبانهم. وروبرتس يعتبر ان الخطة السوفياتية، التي تم التكتم عنها بسبب فشلها في ما بعد، كانت تقتضي حسم الجبهة كاملةً واجتياح اوروبا ودخول برلين خلال عام 1943، وكانت حملة "أورانوس" العسكرية في ستالينغراد جزءاً بسيط منها، إذ أن الحشد العسكري الاكبر مثلاً، بقدر مليون عسكري اضافي، كان في حملة "جوبيتر" في مقابل موسكو، عداك عن حملات بأسماء كواكب أخرى تم اطلاقها كلها في يومٍ واحد، ثم تم ايقاف بعضها عند بروز استحالة نجاحها بالسرعة المطلوبة. وهو ما يدل على عظمة النظام السوفياتي، البنيوية والعقائدية، من حيث تمكّنه من امتصاص كوارث العام الماضي واعادة تسلم زمام المبادرة في حرب وجودية مع دولة عظمى، "احتاجت دول جوارها الى حربين عالميتين لتهدئتها" على حد قول مؤرخ بريطاني آخر. بعد ستالينغراد، لم يعد هناك من شك عند المعاصرين للحرب ان الالمان لن يكونوا أبداً المنتصرين. هكذا كانت اهمية ستالينغراد بالنسبة للحرب العالمية الثانية ولشعوب اوروبا وبالنسبة لمستقبل البشرية جمعاء.
العرب اليوم، في المقابل، لا يقدّمون ابهى مشاهدهم. ولن تُعطى لهم الفرصة على المدى المنظور لكي يقدّموا مجهود مجتمعي بمستوى ما قدمته الشعوب السوفياتية في أربعينيات القرن الماضي. لكن روبرتس ينذرنا بأن أحداً لن يعطى له هذه الفرصة، في زمن القنابل النووية، ليس في معركة واحدة. كانت ستالينغراد "أعظم معركة في آخر حرب كبرى في العصر السابق للنووي"، يقول في ختام كتابه، وقد يكون ذلك افضل، حين يرى المرء ان حتى تضحيات بهذا المستوى لم تحُل في نهاية المطاف دون سقوط النظام الذي جيّشها. ولا يوجد حدث في التاريخ يمكنه ان يحقق، وحده، كافة احلام البشرية بالتحرر والازدهار. لكن ستالينغراد بالتأكيد، وضعت حدّاً لمصير آخر كان سارياً في تلك الايام: مصير استعباد الشعوب السوفياتية وباقي شعوب الارض، بشكل مطلق وصريح من قبل الالمان وحلفائهم.
لكن العرب، في هذا معنى، ليسوا بعيدين عن مشهد الحرب الثانية المأساوي. ولا تنقص واقعهم "مدن محاصرة"، وجيوش مستنزفة، ومعها واجب استدراك موقع "نقطة الانهيار" التي قد ترفع عن مقدراتهم واقتصاداتهم الحصار الهائل الذي تعاني منه. ان الحصار المفروض على شعوب العالم العربي والقارة الافريقية ودول الجنوب الفقيرة، لا يقل وزن عن الاحتلال الالماني للاراضي السوفياتية.

إسرائيل لن تكون نظاماً
يمكن احتواؤه عبر «عدم إعطائه ذريعة لشنه حروب»

هذا الواقع قد يكون غائباً عن الاذهان اليوم، مع اندثار منظومة التحليلات "المعادية للاستعمار"، وتسخيف الكلمة الحاصل في الاعلام، لكن القلب لا يفقد التركيز في بعض الاحيان. وكثيرون ينظرون اليوم الى المشاهد الآتية من فلسطين، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ويدركون أننا امام مشهد بطولات، باتت منذ سنين طريقة عيش يومي، عند شعب يحمل على أكتافه ثقل مسؤولية تجاه البشرية جمعاء، وتجاه الشعوب العربية بشكل خاص واكثر آنية.

إسرائيل الكاملة

إن إسرائيل، مثل غيرها من الانظمة الرأسمالية المرتبطة بمصالح طبقاتها الحاكمة الخاصة، يحكمها مبدأ التراكم غير المحدود لرأس المال، وهي بذلك لن تكون ابداً نظاماً محصور النطاق. لن تكون أبداً نظاماً يمكن احتوائه عبر "عدم اعطائه ذريعة لشنه حروب" على الآخرين، وبالتالي لن تكون أبداً "مشكلة الفلسطينيين وحدهم". هناك دائماً "شيء" في هذا الكيان لن يتوقف عن النمو والتوسّع، مهما بدا حريصاً على تشييد الجدران لتثبيت حدوده.
إن ارض فلسطين التاريخية اليوم، ارض 1948 ومعتقل غزة والضفة الغربية، هي جميعها "إسرائيل الكاملة". قد يبدو للبعض وكأن هناك "ازمة داخلية في إسرائيل"، وان وحده نجاح "عملية السلام" قد ينهيها، لكن الواقع – وليس التحليل – لا يقول ذلك. مهما تفاءلنا، هذه ليست دولة تحت الحصار او معرّضة لهجوم وجودي. وناسها يعيشون داخلها بسلام، باستثناء الحالات التي يقوم فيها جيشها نفسه بالخروج في دوريات حربية في لبنان وغزة. بالنسبة لمصلحة العرب، ان الازمة الوحيدة التي يعاني منها مجتمع إسرائيل هي ازمة رمزية بين مكوناته الاجتماعية المُتغيرة، وهي ازمة من طبيعة المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، إذ تدور عناوينها حول مسألة "طهارة المكان"، وبين صيغ تكبّر بعض الطبقات الوسطى وطبقات الاغنياء الجدد السخيفة، علمانية وقومية ومتديّنة، وقد نقابلها في لبنان مثلاً. غير أنه، وبسبب سياسة الدولة الصهيونية وتاريخ المجتمع المنخرط جزء منه مباشرةً في العملية الاستعمارية، تنبثق عن الازمة الإسرائيلية مزايدات في العنصرية ضد الفريق الاكثر هشاشة، اي العرب، المحلّيين والخارجيّين، وذلك في خدمة احدى فقّاعات الاقتصاد الاسرائيلي على الاقل، ألا وهي الصناعة العسكرية. ويمكن التصوّر بالتالي، أن مآل هذه الازمة "الداخلية" لن يكون ابداً في اعادة هيكلة النظام الاقتصادي للبلاد ومراجعة علاقة الهيمنة على المحيط العربي الاوسع التي تتبّعها الدولة، وسيقتصر على سياسة تعاطٍ مرحليٍّ مع السكان الفلسطينيين في الجوار الاجتماعي الاقرب بانتظار تطورات مجتمعية "داخلية" اخرى، تصب في خدمة فقّاعة اقتصادية أخرى.
على الجمهور العربي أن يدرك درجة العدائية التي تختزنها تخطيطات وسياسات هذا النظام، من حيث هي سياسات تعبئة جماهيرية واقتصادية مكلفة، وهو الذي يرسل مواطنيه الاغبياء من المتديّنين غير المنتجين لاحتلال الاراضي وذلك بالرغم من تسبب ذلك بمواجهات مع ملايين من العرب الفلسطينيين القاطنين في الضفة الغربية والقدس. وعلى الجمهور العربي ان يدرك ان الغاية من هذه الحرب المجتمعية الهائلة، التي تضع مجتمعاً في مقابل آخر، قد لا تكون بالضرورة في التحضير لابادة جماعية للفلسطينيين، ولو ان احتمال الابادة او تكرار عملية التطهير العرقي واردة، انما تقوم على تطبيق نظام استعباد شبه رسمي للمجتمع العربي الفلسطيني، وهو ما سعت اليه حكومات حزب العمل من خلال "عملية السلام" في التسعينيات. والاستعباد يعني جميع سبل استخدام الاشخاص بما يخدم الطبقة-الشعب المُستعبِد، بما فيها ابقاؤهم من دون عمل بانتظار بروز الحاجة لاستخدامهم (موضوع "جيش الاحتياط العمالي" عند الماركسيين).

نقطة انهيار الموجة الاستعمارية

تروّج اسرائيل عن نفسها مقولة انها "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط"، وهو زعم يفترض ان الوطن المعني اصبح كامل التكوين، كما تروّج عن نفسها انها جزء من الغرب. ومن الغباء ان لا يدرك المرء اثناء مراقبة سياسات القيّمين على هذه الدولة، نية على الاقل، بربط دولتهم بسياسات الغرب، بدءاً بالمستوى الرمزي والمعلن، كمثل زعم ان اسرائيل هي حل للمسألة اليهودية الغربية، انها ذراع عسكري، انها جدار تصدٍّ لهجمة اسلامية الخ، وان لا يتعرّف المرء وراء هذه المزاعم على مخطط او سياسة غربية تحديداً، تريد اسرائيل ان تكون جزءاً منها، بدل تفسير هذه المزاعم على انها للتسويق "لشرعية الكيان". هذه دولة طموحة بشكل خاص، لا تريد التوقّف عند حدودها، وقد اعترف الغرب بشرعيتها منذ ما قبل تأسيسها، لكنها تريد من الغرب ان يستوعبها ضمن مشروع سيطرته على العالم العربي والقارة الافريقية. وذلك بالرغم من ان القيادات السياسية لدول الغرب (باستثناء بعضها الاميركي) لا تشارك الصهاينة كامل نظرتهم الى انفسهم، وترى فيهم ادوات مفيدة فقط. لو راقب المرء المسؤولين الفرنسيين مثلاً، حين يعربون عن تضامنهم مع دولة العدو، لن يلاحظ الا وجوهاً غبيّة، وسيدرك انهم لا يفقهون في ما يتحدثون، وان لا عواطف في تصريحاتهم. لن يوازي اي خطاب فرنسي عن اسرائيل الشحنة العاطفية التي نلاقيها في خطاب ديغول عن الكيبك الحرّ مثلاً.
لكن الصهاينة لم يحتاجوا ابداً لأكثر من ذلك، واتسّم سلوكهم منذ بداياتهم وقبل تأسيس دولتهم بموقف الطفيلية تجاه الغرب، بوضوح وصراحة وانسجام مع الذات، وذلك عبر ركب "الموجة الاستعمارية" وطلب استحواذهم على قطعة من الحلوى. ولم يخطئ اليهود اليساريون الاوروبيون، قبل حصول المحرقة، او غيرهم من المتحررين من طائفية "الغيتو" وعنصرية المجتمع الابيض، عندما نظروا الى الصهاينة بمثابة حثالة من "المغامرين الوقحين"، كما قال تروتسكي عن تيودور هرتزل. وقد وصف تروتسكي أتباع هرتزل، اي مجتمع الصهاينة الاوائل، او "المؤسسون" كما يسمّونهم اليوم، بتجمّع من "النصّابين" و"البسطاء" (اي المخدوعون). هذه هي الحقيقة الذهنية للصهيوني، ولأي شخص عنصري، في عالم ما بعد الثورة الفرنسية، يريد تطبيق معايير مزدوجة بين البشر فاضحة الى حد الاجرام.
وليست الغاية هنا شتم الصهاينة، وهم تطوروا منذ موت تروتسكي الى مصاف لا يمكن للشتيمة ان تواكبه وتستوعبه، ولا "يفشّ الخلق" في خصوصهم الا ما ينتهجه الابطال الفلسطينيون. المقصود هو فهم المشروع منذ بداياته، في الاطار الذي يجعله قابلاً للحياة، اي كمنتج استعماري، كجزء من شيء يتخطّاه، كجزء من حصار رأسمالي مستمر على شعوب المنطقة. وللاطار هذا حلقتان من النتائج على المجتمعات العربية: حلقة اولى هي في علاقة الاقتصاد العربي مع رأس المال الغربي، وهي العلاقة التي شيدّتها المرحلة الاستعمارية، المتسمة بالذيلية الاقتصادية والتي يترتب منها حدود ضيّقة لتطور وازدهار المجتمعات العربية. والحلقة الثانية هي علاقة مراعاة لرأسمالية دولة-اداة، صغيرة وسخيفة الحجم، وقليلة الموارد المادية والبشرية بالنسبة إلى طموحات رأسمالها وديناميكيات سياستها الداخلية العنصرية. لكي تستقيم سيطرة هذه الدولة من دون استنزاف مواردها وافلاسها، يترتب على المجتمعات العربية التفتت التنظيمي والاقتصادي الى مستويات اكثر قساوة من تضحيات غيرها من مجتمعات الجنوب، ولا ابالغ بالقول: "الى مستوى المجتمعات باليوليتيّة"، بحيث يمكن لجيش صغير، او لمؤسسات الهندسة الاجتماعية على اشكالها كافة، ان تبسط السيطرة على جزئيات اجتماعية منفصلة، كل واحدة على حدة بحسب مقتضيات كل مرحلة تاريخية. اظن ان كتاب "حرب هتلر"، لديفيد ايرفينغ، وهو المؤرخ البريطاني المنبوذ لقربه من الاوساط النازية، جاء فيه في مكان ما ان هتلر اوصى الى احد معاونيه في الملف السوفياتي ان التعاطي مع الشعوب "السلافية" يجب ان يكون بحيث يفقدون كل اعضاء "نخبهم" وخبرائهم المهنيين عن طريق الابادة (وهذا موثّق، ورسمي، ويقوله جميع مؤرّخي المرحلة)، ولكن ان يُقدم لهم قدر من التعليم بحيث يفهمون اشارات السير فقط، لأن هذا القدر من العلم يبقى ضرورياً لتنظيم استعباد مجتمعهم.
بنود هذه الخطة العامة، على قساوتها، اختبرها اكثر من شعب عربي. يعرف اللبنانيون الهجرة وغياب الحماية الجمركية على صناعتهم وزراعتهم، ويسمعون "بالوكالات الحصرية"، وتمرّ على معظمهم هذه العناوين كسلسلة من النكسات دون ان يربطوها باصول صناعتها، ودون تصوّر ما تنحو اليه بالنسبة لحياتهم على مستوى القرون ربما المقبلة. ويختبر السوريون اليوم اقصى الظروف الحياتية، ومنها تدمير صناعتهم ونظامهم التربوي، وقد تكون سوريا كما هي اليوم النموذج الذي يراد لجميع المجتمعات العربية الوصول اليه، ويدرك السوريون ذلك. في مكان ما، يدرك شعبنا الحبيب في سوريا ان للعالم مساراً "طيبعياً" و"منطقياً" بينما حياتهم مُدمرة واغلبيتهم مُحبطة ومنكوبة. وكذلك يعرف العراقيون، والليبيون، واليمنيون الامور نفسها. فليكن واضحاً إذاً ان الفلسطينيين يعرفون كل تلك الامور منذ مئة سنة، يعيشونها عن قرب، ويخوضون معركة بالنيابة عن كل العرب، في الخطوط الامامية للحصار.
ان الشابات والشباب الذين يرمون باجسادهم في الضفة الغربية والقدس اليوم من اجل تحقيق اصابة واحدة في عنق او كتف او ظهر صهيوني هم "العرب" بامتياز، هذا الشعب الملعون، وقد اختاروا ان يمسكوا مصيرهم بايديهم، بانتظار "حملة أورانوس" عربية تكسر الحصار عليهم وتنقل المعركة الى داخل كيان العدو المحصّن وتمحي المشروع الصهيوني من وجه الارض. أما اليوم، فالوضوح هو الخنجر.