لا أحب مناظر الدماء ولا أشاهد المناظر القاسية المفجعة ومشاهد القتل والتقطيع وسفك الدم. لا أشاهد صور الاغتصاب وفشّ الغل والثأر وإشعال الأحقاد أو تطبيقها على الرقاب الآمنة أو الأسيرة أو الضعيفة، لا أشاهد ما يجرح الوجدان ويترك فيه الندوب، أتحاشاها ما استطعت لذلك سبيلاً، لا أتتبع الجرائم والمجرمين وأكره صور وجوههم... لا أريد أن ألوث ذاكرتي... أريد أن أحافظ على إنسانيتي.
لكن لتعذروا لي قسوة ألفاظي وكلماتي العارية، فنحن نعيش عبثاً لا يصدق، عبثاً ملتبساً بألف لبوس ولبوس، ولتسمحوا لي بضربة مشرط في هذا الخراج النازف، أفجر منه كثيراً من القيح المتراكم والصديد الراكد. دعوني أفجره وأترك يدي وعقلي على سجيتهما يجتثان عروقه المتفرعة ويقتلعان جذوره العميقة، ويجففان أرضيته الرطبة الملتهبة. اسمحوا لي أن أقوم بذلك وإن هال كثيراً من الناس أو القراء الألمُ الموجع الذي سيسببه إفراغُ القيح أو أن تهوله مناظره المقرفة أو رائحته الكريهة النتنة.سيقف البعض رافضاً لأي مقاربة عنيفة للمريض فألا يكفيه مرضه ومعاناته! لنقوم فنشقّ له جسداً متعباً مرهقاً، فنزيد آهاته وحشرجاته اليومية، فيطرحون بأسى أن نطبطب عليه وأن نمرر أيدينا على شعره، وأن نربت على ظهره، وأن نمسح بالكمادات وقطع الشاش المبللة نضح عرق جبهته، وأن نستمر بإعطائه المسكنات الموضعية والأدوية التي تخدر عقله، وتدخل جسده في سبات كسول، وأن ندعو له الله أن يعافيه ويخرجه من محنته، فيما سيستمر الخراج بالتورم والتضخم والتقيح والغزو في جسده المنهك المدنف بما يهدد حياته والى الأبد.سيتهموني بالقسوة والفظاظة وتبلد الشعور وتجلط المشاعر، وأني لا أفرق بين الضحية والظروف التي قادتها إلى هذا الخيار الإجباري البائس، خيار المجبرين والمكرهين، خيار المضطهدين المعذبين، خيار الضحايا وبقايا البشر. سيظهر «الإنسانيون» فرادى وجماعات يستخدمون أقسى الكلمات والاتهامات: بلا قلب وبلا رحمة، ومزاود في ركب المزاودين. أصحاب الشعارات المنفوخة التي تملأ صرخاتهم الآفاق بلا جدوى، تقود الجميع من خراب إلى خراب ومن جحيم إلى آخر.

ندافع عن معادلة بسيطة في أوطاننا، لا يدركها إلا المحبون الذين عاشوا فيها

سينبري العقلانيون «البراغماتيون» وينسبون لي البعد عن الواقعية والخوض في أحاديث المثل والقيم العتيقة، وأنك تبني عمائرك على ركام العواطف والوجدانيات، فكيف ليديك أن تزيل الغبار عن هذه القيم أو تنظفها من صدئها القديم! وكيف لعقلك أن يبني هذه الصروح العالية من المسلمات واليقينيات! وما هي إلا كلام في كلام وهواء في هواء، لا تستند إليها الأبنية ولا تشفى منها الآلام المبرحة أو تعالج العذابات السقيمة. لا بأس... فحين يضع المهاجر حقيبته في الأرض الغريبة والبلاد الباردة البعيدة، وبعد أن يخلع عن جسده عناء هجرته الطويلة مع ثيابه المتسخة، ويتوقف مع هدير الطائرات واحتكاك أشرطة قضبان قطارات السفر صوت أزيز الرصاص وأصوات الانفجارات من أذنيه ويخلد إلى خمول اللاجئين وانتظار النازحين الطويل ستتقاذف إلى ضميره أسئلة وجودية كثيرة لا تتوقف. فبعد أن قرر الخروج من ملهاة وطنه ومأساتها، واستراح إلى ذرائعه وحججه الموضوعية منها والمختلقة، وراح يبني على فرضيته التي أكدها وتداولها مع مَن حوله مراراً، وراح يراكم في داخله الأدلة القاطعة التي تثبت بالبراهين قراره، ويركن إلى قناعة راسخة أن «هذه البلد لم تعد لنا وأن الحياة صارت فيها مستحيلة وأنه لا بد من الرحيل»، بينما تنبني قناعة أخرى أكثر قطعية لدى مغترب قديم أن «العودة إلى الوطن عبث وأنه محتل بالأرواح الشريرة وأشباه البشر وأنه محكوم بالخراب والشياطين»، وتبرّد الضمائرُ وتستكين إلى أحكامها وبراهينها التي تجمع كل يوم لتبلغ اليقين الذي لا يخالطه الشك مطلقاً.
منهم أشخاص قد تمترسوا وراء خيار «إسقاط النظام» لأسباب قد بدت - وقد تكون- منطقية لهم، وهم حتى الآن لم يجروا المراجعة وجردة الحساب، وهم يضخمون باستمرار حجم الكره والحقد في داخلهم للآخر المختلف مهما كان حجمه، وهم ما زالوا لتأكيد صوابية خيارهم يتبنون خطاباً متطرفاً مبنياً على تفاصيل استجداء التعاطف والمتاجرة بالدم السوري - ومن المعروف أن الدم السوري يسفك على كل الجهات وفي كل الجهات -، ومن هؤلاء من بنى روايته على أمانيه وأوهامه البعيدة عن الواقع، كونه تابع ما يجري من مآسٍ وكوارث عبر محطات يوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعية وشاشات العولمة النفطية، ولم يكلف نفسه التحقق في أرض الواقع أو أن تقنعه ملكاته العقلية أن في بلاده لا يزال هناك متسع آمن للحياة، يشمل ملايين البشر وعشرات آلاف الكيلومترات من الأرض. هناك كثر اعتمدوا في نظريتهم على «شيطنة الدولة» وكل من يواليها أو يدعمها، وهؤلاء يضيفون كل يوم تفصيلاً صغيراً من عذابات السوريين ليقنعوا أنفسهم أنهم لم يخطئوا باتخاذ قرارهم بالرحيل أو التشبث بالغربة، وكلما طال الغياب وبعدت الأيام وغابت العيون والجباه عن ثرى الوطن كلما كبر الملف، وكثرت أوراقه، وكلما تضخمت أحقادهم وتعملق الغول في دواخلهم فتزداد أحقادهم تجاه الناس وللبلد حتى يصلوا إلى نتيجة مؤكدة راسخة كالجبال الراسيات أن هذه البلد ليست لهم، وأن الناس فيها كلهم عبيد وهم من قلة اختاروا الحياة والحرية ولن يعيشوا في سجن الوطن الكبير... لذا سيبقون متمترسين بقرارهم وسيبررون كل خطوات التنازل الأخرى.
ستكون العلل والحجج أنهم تحولوا إلى إنسانيين عالميين «انترناشونال»، فما الفرق أن تخدم سويدياً أو نرويجياً أو ألمانياً أو انكليزياً أو فرنسياً أو كندياً وبين أن تخدم سورياً أو عراقياً أو لبنانياً أو يمنياً، ألسنا كلنا أبناء الإنسانية ونشء العولمة الجديدة وأحفادها؟! ستذوب وطنيتهم وتذروها رياح التحولات الجديدة، وستسقط نقطةً في بحار إنسانيتهم ومحيطاتها الدافقة، سيتحللون من جذور أوطانهم، وسيحلقون في فضاءات عوالمهم اللامحدودة واللامنتهية، ستئنّ أوطانهم المريضة التي تعاني وهي تراهم يبذلون شبابهم العفية ونشاطهم الفتي ليتحولوا بعيداً عنها إلى مفاصل متيبسة والى أجساد تتسرب لها الكهولة والشيخوخة رويداً رويداً. أفهم أن هذا جزء من الإقناع الذاتي للفرد والمجموعة دفاعاً عن الخيارات، ولو كانت هذا الخيارات مشوبة ومخلوطة بالخطأ والتخلي والهروب ونكران الجميل وقلة الوفاء.
نقول لكم إننا كنا وما زلنا نعيش في «عالم واقعي» ليس هو مدينة أفلاطون الفاضلة كما تريدونها، وليست بالطبع سجوناً متعددة في جحيم دانتي كما تصورونها، هي واقع نغيره ونصنعه بأنفسنا ونشهد على نجاحه أو فشله، ويبدأ تغييره من أنفسنا ومن محيطنا الصغير عبر التخلي عن الأحقاد والضغائن والتوقف عن رمي الأخطاء والكوارث الشخصية على الشماعات والمشاجب البعيدة، وأن ثورة مطلوبة على وجه السرعة على غول الأحقاد والملفات مسبقة التصور والقناعات الداخلية في قلوب السوريين، تدفعهم إلى حوار جديد لانطلاقة متجددة للعنقاء السورية.
ندافع عن معادلة بسيطة سحرية في أوطاننا، لا يدركها إلا المحبون الذين عاشوا فيها، وعشقوها على بساطتها وعشوائيتها وبركة سيرها، الحياة فيها - كما في كل الأوطان المعذبة - تتصف أنها لا تقدم الغنى والرواتب العالية التي تقبض في الخارج وتجمع في البنوك ومصارف الشركات الكبرى... الحياة والعمل فيها لا يجريان على معايير قياسية وساعات دقيقة، فلا يفرق أحياناً أن تقدم قبل ساعة أو بعد ساعة، حياتنا تكره الانتظام الدقيق أو التوقع المضمون. العمل داخل أوطاننا الموجوعة لا يحولك إلى عتلة قزمة أو مسنن صغير في محركات كبرى داخل مصانع عملاقة، تعمل وفق «كاتالوغات» مسبقة التقدير، فإذا ما قرر صاحب المصنع في البلاد الغريبة استُبدلت العتلةُ ورُمي المسننُ، واستمر العمل وتعالى ضجيج المصنع من جديد ولا أحد يسأل ولا من يحزنون. حياتنا هنا فيها تعب وشقاء لتأمين الأشياء الصغيرة والمستلزمات الأساسية. هنا لا تتحول إلى رقم بلا اسم أو شاغلٍ لمقعدٍ أو منصبٍ أو وظيفةٍ بصفة مؤقتة. في وطنك لا تبني نجاحك على كثبان الرمل في بلاد النفط أو على الجليد البارد في البلدان المتجمدة البعيدة، بل تحفر بأظفارك أرضك وتزرع شجرتك عميقاً في قلوب أهلك وعقولهم، هنا ينزرع اسمك وعملك وجهدك شجرةً باسقةً يستظل بها المحتاجون والتعِبون، ويرسمون على جذعها أحرف أسمائهم الأولى، ويبثونها قصص حبهم الأول ومعاناتهم بحنين الناجحين المتميزين... هنا قد تحولك أقدارك نسغاً كاملاً للوطن إذا ضمك قبر فيه. كل شخص يدافع عن خياراته ويجد لها المبررات والذرائع والحجج الحقيقية أو الواهية، لكن الأكيد أن أجدادنا وآباءنا كانوا أكثر تمسكاً منّا بالوطن، وأننا نحن «المتثقفين» أكثر قدرة على تبرير فلسفة التخلي والهروب تحت شعار «بدنا نعيش متل العالم». والحقيقة أننا فضّلنا العيش تحت قهر كل ظروف الغربة (لغة جديدة ومجتمع بسلوك مختلف، والتخلي عن المهنة، وتجرع تربية جديدة لأطفالنا وغيرها)، ولم ندافع حقاً عن وطن جديد نبنيه لأولادنا ويكون خيارنا الوحيد. نقدّر الظروف الموضوعية الصعبة التي تضطر البعض إلى حزم حقائب الرحيل، لكن يجب عدم الانسياق وراء كل الذرائع والحجج ليصبح الرحيل والهجرة عدوى وظاهرة متفشية تشغل ليالي العالم وتزحم بقوافلها الكثيرة معابره الحدودية.
يجب الوقوف بشدة أمام هذا الاستنزاف العبثي لموارد الوطن وكوادره البشرية، وتوجيه اللوم بأقسى العبارات إلى الأسلوب العبثي لما دعي بالثورة السورية وثوارها الذين يستمرون في غيهم وتبعيتهم دون أن يجروا مراجعة للخراب الذي كانوا من صنّاعه وشركائه الأساسيين.
ويجب التوجه بعبارات مماثلة لأسلوب ممنهج في التقصير والتهاون والتخاذل استمرت عليها كوادر في الدولة السورية، فساءت الخدمات واستفحلت صعوبات العيش. نقدر ظروف بعض المهاجرين لكننا لسنا مع الخيارات البائسة المتخاذلة لمعظم المهاجرين، لسنا من هواة جلد الضحايا لكننا لن نودع المتخاذلين ولن نحدو لأرتالهم الطويلة في رحيل التخلي والهروب.
يجب عدم التعويل مطلقاً على نخوة مفقودة لأشقاء تآمروا على سفك دمنا ورمينا في الجب، أو على إنسانية عالم متوحش يراقب موتنا كما لو كنا ثيراناً في حلبات الماتادور.
اليوم، مازال المركب السوري منطلقاً بمئات الألوف من الكفاءات والخبرات المختلفة، وأن كل من قفز منه أو غادره ظاناً أن المركب سيتوه أو تتقاذفه الأمواج أو يغرق من دونه، وجلس يشكك بمسيرته ويتباكى على كل من بقي فيه، ويقيم المناحات ومآتم التأبين والوداع، نطمئنه أن المركب سائر إلى مقصده الأخير المعروف. لن تؤثر فيه العواصف القاسية والأنواء السيئة، سيعوض الذين يقفزون منه مئات وآلاف الكوادر المؤهلة، سوريا لم ولن تنقصها الكوادر والخبرات يوماً، فلطالما كانت زاخرة بهم يفيضون عن حاجتها، يجب على كل من قفز من المركب أو ذهب قريباً أو بعيداً يتباكى على المركب وعلينا، أن يكفكف دموعه أو يحتفظ بها ليوم قادم يأتي مسرعاً سيندم فيه كثيراً، لأنه غادر هذا المركب السوري المقدس واستمع لجوقة الأغراب ونحيب المرجفين.
لكن... سيأتي إلى هنا بعض المهاجرين والمغادرين متأخرين جداً بعد أن تحولوا إلى عتلات صدئة ومسننات غير صالحة للعمل في محركات الوطن، يرجعون وقد تحولوا إلى أرصدة بنكية مرتفعة... يأتون وقد تصلبت مفاصلهم وترققت عظامهم، وتيبست هياكلهم، وظنت عقولهم بعد أن أصابها البرودة والجفاف في الاغتراب الطويل، أن شمس الوطن ما زالت تنتظر شبابهم وأن الوطن عندما يبدأ امتحانه سينتظر الغائبين، ألم يعلموا أنه: «ليس لغائب ظل».
* كاتب سوري