في النّقد الذي قدّمه المفكّر الألماني رينهارت كوزيليك للتنوير في أوروبا، كان الهجوم الأساسي يستهدف "فلسفة التاريخ"، باعتبارها المولود الأكثر خطورة لأفكار القرن الثامن عشر. لا نقصد هنا فلسفة تاريخ معيّنة، ليبرالية أو ماركسية أو قومية، بل "فلسفة التاريخ" كمفهومٍ في حدّ ذاته، وكأيديولوجيا حداثية تعد بتوحيد السياسة والأخلاق في مسارٍ "صحيح" نحو مستقبلٍ مثاليٍّ متخيّل (ومحتّم). ولو نظر كوزيليك إلى بلادنا، لاعتبر أنّنا شعوبٌ تقع تحت أسر "فلسفة التاريخ" بقدرٍ لا يقلّ عن أوروبيي القرنين الماضيين: كلّ أدبيات التنمية والتخلّف التي ندرسها ونطبّقها تقوم على فكرة "اللحاق" بنموذجٍ متقدّم (و"بركب التاريخ")، الحجج حول حتمية "التحوّل الديموقراطي" التي راجت لدينا تنطلق من فلسفة تاريخ محددة، والخطاب القديم (والمتكرّر) حول "النهضة" التي نوشك ــــ أو يجب ــــ أن نخطو إليها، يقوم على إسقاطات فجّة توائم بين تاريخنا وبين حقب التاريخ الأوروبي. حتّى الإسلاميين الّذين يتخيّلون نضالهم جزءاً من قوسٍ تاريخي ينتهي باستعادة الخلافة (وفتح الأندلس، إلخ)، هم في الحقيقة ينهلون من إرثٍ تنويريٍّ أوروبي يحوّل السياسة إلى "قرضٍ مؤجّلٍ إلى المستقبل وبلا ضمانات"، يقول كوزيليك (هو يعتبر، أصلاً، أن فلسفة التنوير التفاؤلية ما هي إلا استبدالٌ للفكر الديني المسيحي الذي خبا في عهد الحكم المطلق).
في القرن السادس عشر، يكتب كوزيليك، انهار المجتمع الأوروبي تحت وطأة الحروب الدينية؛ ومن خضم هذه الحرب الأهلية المستمرّة، ولد الحكم الاستبدادي المطلق، ومعه الدولة الأوروبية الحديثة. أدى الشقاق الديني وانقسام المؤسسة الكنسية إلى تفكّك كلّ البنى التقليدية التي كانت تحيط بالفرد في أوروبا: الكنيسة والإقطاع والدول، وحتى العائلة، تحوّلت إلى وحدات متناحرة ومتقاتلة. الحكم المطلق نشأ لكي يضع حدّاً لهذه الحالة، ومن دون فهم الحكم المطلق، يقول كوزيليك، لا يمكن فهم التنوير الذي جاء كردة فعلٍ عليه. الحاكم المطلق أنهى الفوضى الاجتماعية عبر تركيز كامل السيادة، أو السلطة السياسية، في شخصه، وتجريدها من كلّ مؤسسات المجتمع ــــ الكنيسة تحديداً. يجب أن نتذكّر هنا أنّ هدف الحكم المطلق لم يكن حرمان عموم الشعب والمواطنين حقوقَهم السياسية (فهذه لم تكن مطروحة أصلاً، قبل نشوء البرجوازية) بل كان ــــ أساساً ــــ مواجهة السلطة الدينية وإقامة جدارٍ يفصل الكنائس والمذاهب وتعصّبها عن نطاق السياسة ويقصيها عنه ويمنعها من التناحر. يغيب عن الكثير من العلمانيين العرب "الحداثيين" أنّ إضعاف الكنيسة وسلطتها لم يكن عبر التنوير، بل عبر المُلك الاستبدادي، وأنّ كلامهم عن التنويريين الأوروبيين الثوريين وهم يحرقون الكنائس ويشنقون الكهنة هو تاريخٌ متوهّم لم يحصل في الواقع (على رغم الكتابات المعادية للدين التي خطها التنويريون، لم تقم أي حكومة أوروبية بمعاداة الدين أو المناداة بالإلحاد، بل حاربت المؤسسة الكنسية حصراً، وحتى روبسبيير ــــ المتطرف في عدائه للكنيسة والمسيحية ــــ روّج لعبادة "الإله الخالق" خارج التنظيم الكنسي).
الحكم الاستبدادي، يقول كوزيليك، يعتمد على تركيز السلطة في شخص الأمير، وعلى فصل مجال السياسة عن باقي المجالات، وبخاصة الأخلاق والدين والفلسفة؛ فيكون قرار الأمير، الذي لا يساءل إلّا أمام الله، فوق القانون، والقانون فوق الأفراد وضميرهم ومعتقدهم. الهدف هنا هو ليس شخصنة الحكم، فعلى الأمير أن يكون سيداً كي لا يشاركه أحدٌ في القرار، ولكن وجوده له وظيفة محددة تتخطى شخصه: حفظ السلم والمصلحة الجماعية. بهذا المعنى، فإنّ حصرية السياسة في شخص الأمير هي ضمانة، ومن واجب الأمير ــــ بغض النظر عن معتقده الشخصي ــــ أن يقمع كلّ معارضةٍ أو تحدٍّ لسلطته، وإلّا ــــ يحاجج كوزيليك ــــ يكون أي تسامح مع معارضةٍ هو نقضٌ لشرعية الحاكم، وتعريضٌ للمجتمع بأسره لأهوال الحرب والانشقاق. قال جون بيركلي للأمير: "أعد للناس حريتهم، أو اضمن لهم السّلم الذي ضحّوا بها من أجله"؛ هذه المعادلة تختصر منطق الحكم المطلق في أوروبا. ولكن، مع تقادم عهد الحروب الدينية وغيابه من الذاكرة، وصعود البرجوازية في القرن الثامن عشر، وأزمة الدولة الملكية المتزايدة، لم يعد لهذا التمييز بين السياسة والأخلاق ــــ وإقصاء المجتمع من السياسة ــــ من تبريرٍ بالنسبة إلى مفكّري التنوير، بل أصبح في نظرهم فصلاً غير أخلاقي وغير منطقي، لا بدّ من الثورة عليه وإزالته حتى يتحرّر الإنسان ويحقق قدره التاريخي.
تطوّر فكر التنوير، إذاً، من داخل دولة الاستبداد، واليوتوبيا التي خرجت منه، بحسب كوزيليك، تنطوي على "نفاقٍ" أصيلٍ فيها. النفاق هو في أنّ النظرية التفاؤلية عن التاريخ قد طوّرها أناسٌ يقبعون خارج المجال السياسي، ولا حسابات سياسية لديهم، وكان من المستحيل أصلاً أن يتخيّلوا هذه النظريات لولا دولة الاستبداد التي أمّنت لهم مجتمعاً واستقراراً ودولةً يناضلون ضدّها. هذا الوهم بتوحيد الأخلاق والسياسة، والسعي نحو اليوتوبيا، كان يسقط أمام كلّ اختبارٍ واقعي، يحكم الكاتب الألماني، وبخاصة في ما يتعلّق بوظيفته الأساسية: منع الحرب والشقاق.
في تأريخ الألماني كوزيليك أمثولتان للعرب الذين ينتسبون (عن وعي أو غير وعي) إلى "فلسفة التاريخ" الأوروبية الحديثة. أوّلاً، إن كانوا يصرّون على التطابق بين مسارنا ومسار التاريخ الأوروبي، فإن عمل كوزيليك يوضح أنّنا لسنا بالضرورة في حالة "الاستبداد"، التي تنتظر تنويراً ينقضها، بل إنّنا أقرب إلى مرحلة الحروب الدينية في أوروبا، وتشظّي السلطة السياسية والسيادة وانهيارالمجتمعات (ما يعني أن الاستبداد ــــ الحقيقي ــــ يكون، بحسب منطقهم، الإجابة عن حالتنا التاريخية، وليس التحرّر). ثانياً، يذكّر كوزيليك بالمسافة بين الأيديولوجيا والأخلاقيات والإيمان بـ"حتمية تاريخية"، من جهة، وبين السياسة وأدواتها من جهةٍ أخرى. لا شيء يؤكد حجة كوزيليك عن "العجز السياسي" لفلسفة التنوير الأوروبية كسلوك ورثتها في بلانا خلال السنوات القليلة الماضية، حين جدّ الجدّ وبانت قوى المجتمع واحتدم الصراع، فانحصر دورهم في الكلام عن الحتمية التاريخية وقداسة النفس البشرية ومعنى المواطنة؛ كأنّ أحداً لديه مشكلة مع هذه المبادئ، أو كأنها ستحقق نفسها بنفسها. حتى الفاشيون يقولون إنهم يقدسون النفس البشرية ويسعون إلى السلام (بشروطهم)، ولكن المسألة تتعلّق بالمرحلة التاريخية وضروراتها ومخاطرها، ومن يقدر على إنتاج منطقٍ سياسي يستجيب لها، وهنا تحديداً لا تنفع "فلسفة التاريخ" ولا النماذج الجاهزة.