سعد الله مزرعاني *في خضمّ مسار سياسي متوتّر في المنطقة وفي لبنان خصوصاً، ترافقه حروب وغزوات ونزاعات كبيرة وصغيرة، قديمة وجديدة، خارجية وداخلية، وفي نطاق معارك وحروب متنقّلة وثابتة، تبلغ أحياناً حجم الحروب الأهلية، وفي سياق صاخب من الصراخ والادّعاءات والشعارات الخادعة أو المخادعة (والنادرة الصدق والجدية)، وفي مزاج سياسي يتّسم باستنهاض واستخدام وتغذية العصبيات الطائفية والمذهبية ويستسهل القمع والقتل والإلغاء، وفي مجرى لا ينقطع... وسط كلّ ذلك، من الابتذال في الممارسة والإخلال بالقيم وبالأخلاق وبالمصالح الوطنية الكبيرة والأساسية والمصيرية... وفي إضافات «مبدعة» لما كان توصّل إلى ملاحظته مفكّرون كبار في حقول السياسة وعلم الاجتماع، لجهة تأرجح و«تذبذب» الفئات الصغيرة وحتى الوسطى من البورجوازية، ما بين المواقف والاتجاهات والعلاقات صعوداً وهبوطاً... يميناً ويساراً... في خلال كلّ ذلك ممّا ذكرنا وممّا فاتنا أن نذكر، تواجه عملية التغيير مساراً معقّداً في بلورة الاتجاهات والمواقف والعلاقات والبدائل. وتعاني أكثر، في عملية صياغة السياسات والممارسات القادرة على الوصول إلى القوى المتضرّرة من الأوضاع القائمة، ومن ثمّ محاولة جذبها إلى مسرح المشاركة والنشاط والفعل والتأثير. ويكون الأصعب أيضاً، توليد عناصر الاستمرارية والمثابرة وبناء عمارات ومشاريع قادرة على الصمود والنمو والتطوّر والمنافسة والمواجهة، على طريق إحداث التغيير وجعله قادراً على فرض وقائع جديدة وحقائق جديدة وقيم جديدة، وديناميات فكرية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية من نوع جديد.
ونستطيع، في رصد مراحل مشاريع التغيير، أن نلاحظ عدم استمراريتها، بل إنّ الكثير منها قد مضى واندثر من دون تبرير أو استئذان! فبعض الصيغ الذي ترافق قبل وبعد ظهوره ونموّه مع الكثير من الصخب والوعود والشعارات الكبيرة، اختفى فجأة، وبلمح البصر، قبل أوانه تاريخياً، ومن دون أن تتكامل دورة نموّه ومعالمه ومفاعيله، ناهيك عن آماله ووعوده، وقد كانت غالباً، كبيرة وعظيمة ومبشّرة ومدوّية «من المحيط إلى الخليج» ومن «البحر إلى النهر»...
ليس بعيداً عن هذه المناخات، التي حكمتها عوامل سلبية موضوعية، في البنية والتكوين، وذاتية في الأداء والبناء، ما نشهده اليوم من تحوّلات تشمل بالدرجة الأولى قوى التغيير لجهة الارتباك والضعف والتضعضع وعدم القدرة على تجاوز الصعوبات وصياغة الردود ومواكبة التحديات وبناء القدرات...
يحصل ذلك للأسف في غير موقع وساحة، وهو يتحوّل إلى نوع من الظاهرة شبه المستمرة والثابتة. هذا فيما يستمرّ العدوان على شعوبنا وعلى مصالحنا، وفيما يتخذ هذا العدوان طابع الغزوات وتهديد الأوطان والمصائر والثروات والسيادة والوحدة والاستقلال، فضلاً عن الحقوق البسيطة في الحرية والتعبير وامتلاك الوسائل الضرورية في حدود دنيا للحياة والبقاء: الغذاء والدواء والكساء والمعرفة والتواصل.
ومع هذا العدوان الذي يتهدّد بأسوأ المصائر دولنا وشعوبنا، تنشط القوى المتواطئة والعميلة والرجعية المحلية، في ممارسة دور وقح في تسهيل مهمة الغازي والطامع والمحتل والمغتصب.
لا نريد هنا أن نقلّل من شأن مقاومة بعض القوى الشعبية لمشاريع السيطرة بالغزو وبالعدوان وقدرتها المثيرة للإعجاب أحياناً، على إفشال بعض مشاريع العدوان وبثمن وتضحيات وبطولات عظيمة، لكنّنا نلفت إلى خطورة عدم تبلور هذه المقاومة (أو المقاومات)، في صيغ قادرة، حتى على تثمير النجاحات في مشاريع مضادّة تمتلك القدرة على الاستقطاب والثبات والمستقبلية والإنتاج والتصحيح. ولا نتحدّث طبعاً، هنا عن أشكال من «المقاومة» تستخدم العنف المطلق والعبث الأعمى وتستسهل القتل المجاني، وتُستخدم نشاطاتها ومواقفها، غالباً، للتغطية على الغزو والعدوان أو لتبريرهما أو لاستقدامهما في مواجهة «الإرهاب» المحلي!
تبرز في مجرى ما نشير إليه، ملاحظة غياب تيارات كبيرة وأساسية وصاخبة في حضورها أحياناً، عن النشاط والحركة وحتى الوجود. ما يبقى أحياناً من هذه التيارات بقايا لا يتحرج حاملو ذكرياتها في إضفاء صفة الاستمرارية عليها حتى لو كانت عبر بضعة أشخاص أو حتى اقتصرت على شخص واحد!
وقد بات من قبيل الموضة أن يكون شخص ما (أو مجموعة أو حزب) «يسارياً سابقاً».
بات من قبيل الموضة ان يكون شخص ما أو حزب "يساري سابق" يقوم نجاحه على التنكر لماضيه

وتعجّ مواقع عديدة بمثل هؤلاء. لا بل إن من شروط «النجاح» في الموقع الجديد «اليساري السابق» تأكيد نفي تاريخه والمبالغة في التنكّر لقناعاته السابقة والتطرّف في إظهار الولاء لذوي النعمة والسلطان.
أما الأخطر من كلّ ذلك فهو ما يتسرّب إلى بنية بعض التيارات والأحزاب اليسارية القديمة والجديدة، العريقة والمستحدثة، من وهن ومن يأس ومن خيبات. إنّ ذلك هو الأكثر خطورة من نواح عدّة، من ناحية تضييع البوصلة بالدرجة الأولى، ومن ثمّ من ناحية الانكفاء عن النشاط والمشاركة الحية والمنتجة، ومن ناحية العجز عن تقديم أمل ببديل مقنع وجاذب للقوى الشعبية المتضرّرة، وخصوصاً للأجيال الجديدة.
إنّ الضرر الذي قد ينجم عن الأدوار والمواقف التي تصدر عن «يساريين سابقين»، هو أقلّ بما لا يُقاس من الضرر الذي قد ينجم عن يساريين حاليين يمارسون سياسات وتوجهات يمينية. وتستحق هذه المسألة توقفاً جديّاً ونقدياً لجهة تبيين أشكالها ومظاهرها وأسبابها وأساساً طرق معالجتها.
لا شكّ في أنّ لوحة الأحداث المعقدة وتداخل العوامل والمؤثرات الخارجية والداخلية وتلاحق الخيبات، وتصاعد العصبيات، وتأثير الدعاية والإعلام (وهما حاضران بقوة للتشويه والتمويه أكثر من أيّ مرحلة سابقة)... لا شكّ في أنّ كلّ ذلك يفاقم من الصعوبات. لكن لا شيء يبرّر على الإطلاق أن يحرف تيار «الحدث اليومي» والدعاية المغرضة والمشبوهة والأمور الثانوية، قوى التغيير أحزاباً وجماعات وأفراداً، عن تمييز الأساسي من الثانوي والدائم المؤقت والتناقضات الرئيسية من التناقضات الهامشية أو الطارئة.
إنّ منطقتنا وأركاننا تتعرّض لمشروع هيمنة مفتوح. وهي ستبقى كذلك بسبب ثرواتها الهائلة من جهة، وتبعية حكامها ووهن بناها الدفاعية (من كلّ نوع) من جهة أخرى. والصراع الذي يمكن خوضه ضدّ مشروع الهيمنة هذا، هو صراع مصيري بكلّ معنى الكلمة. وهو صراع سياسي وطبقي واجتماعي وحضاري وفكري وأخلاقي...
إنّ قضية كقضية الشعب الفلسطيني كمثل، ما كان لها أن تستعصي على الحل لولا تجسيدها لما ذكرنا من أنواع الصراعات: هل هي صدفة مثلاً أنّ الطبقات الحاكمة التابعة كانت دائماً إلى جانب المستعمر ضدّ الحل العادل لقضية الشعب الفلسطيني رغم كلّ بطولاته وتضحياته وصموده وعدالته وحقوقه ومطالبه؟
يستثير هذا الكلام جملة من المسائل حول الوضع اللبناني وعملية المواجهة فيه، أي عملية التغيير وشروط هذه العملية في تكامل عناصرها التحرّرية: السياسية والاجتماعية والتنموية على مستوى المشروع العام، وبما يتناول المجتمع والفرد على حدّ سواء.
هذه مسألة تحتاج إلى حوار جدّي من أجل بلورة مشروع التغيير وقواه وأدواته وأساليبه في خضمّ متعاظم من التحديات والخيبات... والآمال أيضاً.
* كاتب وسياسي لبناني