«اللقاء التشاوري» المزمع عقده في العاصمة الروسية موسكو، وبدعوةٍ منها، في 27 و28 من كانون الثاني الجاري، هو، مبدئياً، خطوة في الاتجاه الصحيح. هو كذلك، بسبب أنه ليس من حل عسكري للأزمة السورية المتمادية والتي تنهي بعد حوالى شهرين عامها الكابوسي الرابع. هكذا كان الأمر أيضاً طيلة سنوات القتل والتدمير والتهجير الماضية. وهكذا سيكون في المرحلة المقبلة إذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه راهناً، أي إذا ما استمر البحث الجدي عن حل سياسي غائباً أو مغيّباً.
قلنا إنها خطوة تقع، مبدئياً، في محلها الصحيح، لأن المحاولات السابقة كانت جزءاً من الحرب ولم تكن تعبيراً صادقاً وفعلياً عن مساعٍ لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية. طرف من أطراف الأزمة (وما أكثرهم الآن: محليين وإقليميين ودوليين!) كان سعى بعد عام ونيف على الأزمة (جنيف 1) إلى تسجيل انتصار حاسم على الفريق الآخر ممثلاً بالسلطة السورية وبحلفائها. ثم كان، بعد حوالى سنة ونصف السنة من ذلك (في جنيف 2)، أن حصل العكس.
فلقد أدت تطورات ميدانية مضادة إلى جعل الطرفين الرسمي السوري والروسي، خصوصاً، يتكفلان بإسقاط «جنيف 2» ومعه مجمل الجهود التي اتضح، من قبل الطرفين، أنها كانت، كما أسلفنا، جزءاً من محاولة حسم الصراع لمصلحة أحد هذين، وليس لإيجاد تسوية مقبولة منهما، تضع حداً لمحرقة الموت والدمار، وتخرج الشعب السوري من أتونها.
مجرد الجنوح نحو الحوار وبالتالي الحل السياسي، هو أمر مرحب به

لا شك في أن مجرد الجنوح نحو الحوار، وبالتالي، الحل السياسي، هو أمر مرحب به اليوم وغداً. من هذا المنطلق تقع على منظمي لقاء موسكو أعباء كثيرة لكي يكون فعلاً خطوة أولى في مسار طويل للبحث عن حل سياسي لأزمة فاق تعقيدها كل الحسابات.
من ذلك ما أكدته القيادة الروسية نفسها حين خفَّضت سقف توقعاتها بشأن نتائجه. فهي تدرك، قبل سواها، أن مستوى التمثيل فيه، من جهة فريق المعارضة، محدود، لأسباب يُسأل بشأن بعضها الطرف الروسي قبل سواه، ويعود بعضها الآخر إلى خلل في واقع المعارضين في تشتتهم وتنوع وتباين ولاءاتهم. ثم، وهذا هو الأهم، أن القوى الإقليمية والدولية الداعمة للمعارضين، ليست شريكة في المؤتمر، ولو كان بعضها، لم يشهر في وجهه، حتى الآن، سيف الرفض والاعتراض العلنيين، وبعضها الآخر تريث وفضل المواكبة بانتظار التطورات في سوريا ومن حولها، والمجريات في المؤتمر نفسه: لجهة التباينات والتفاعلات والنتائج.
وقبل هذا أو ذاك في ما يتعلق بمواقف الأطراف «التقليدية» العديدة المنخرطة في الأزمة السورية، ثمة عنصر جديد قد أربك كل المعادلات، أو هو، أحياناً، قلبها رأساً على عقب. نعني، حتماً، ظهور «دولة الخلافة الإسلامية» على أراضي ثلث كل من العراق وسوريا، قبل حوالى ستة أشهر، بشكل صاعق ودراماتيكي.
أوجد ذلك طرفاً ثالثاً وفاعلاً في المشهد، لم يكن في حسبان أحد! أول النتائج كانت في إعلان «تحالف دولي ضد الإرهاب» أُطلق بقيادة أميركية من عاصمة المملكة العربية السعودية نفسها. مهما كانت النوايا، فإن ظهور «داعش» المفاجئ قد طرح أولوية أخرى غير إسقاط النظام السوري. وهو طرح موضوعياً عملية خلط أوراق، لم تكتمل كل معالمها بعد.
ذلك أن الحرب على الإرهاب، هي، من وجهة النظر الأميركية، حرب طويلة، تسعى واشنطن أيضاً، إلى تحويلها عملية معقدة ومديدة لإعادة ترتيب شؤون المنطقة لمصلحة هيمنتها واستعادة نفوذها وتدارك إخفاقاتها وخسائرها السياسية والاقتصادية في العراق وأفغانستان خصوصاً، وفي المنطقة والعالم عموماً.
بالعودة الى لقاء موسكو العتيد، ليس من الفطنة إطلاقاً نفي التهمة عن موسكو بأنها تحاول تحسين مواقعها من خلال مسعاها الحواري الحالي بين السلطات السورية وبعض معارضيها.
أكثر من ذلك، فإن القيادة الروسية التي تتعرض لعزل وحصار وعقوبات وصعوبات اقتصادية كبيرة، تحاول بالفعل تكريس دور ومواقع لها في مواجهة الحلف المنافس الذي تقوده واشنطن. لكن المسعى الروسي مشروع تماماً، طالما أن الخصم ينطلق من حسابات شاملة ويدير مشاريع في خدمة تعزيز مواقعه وترجيح قدرته على قول الكلمة النهائية في شؤون سوريا والمنطقة عموماً، وطالما أن الوسيلة سليمة وهدفها صحيح في الوقت نفسه.
بسبب ذلك، فإن لقاء موسكو يبقى، رغم الحسابات والهواجس الروسية، خطوة صحيحة إذا ما تدرج من الجزئي إلى العام، مع كل ما يمليه ذلك من عملية تشبيك معقدة وصعبة، تصل إلى نهايات سعيدة بشأن أمرين معاً: مواجهة الإرهاب من جهة، والسعي إلى احتواء الأزمة السورية التي باتت كبرى الأزمات المتفجرة والخطيرة التي تواجهها المنطقة، بل والعالم أجمع، في العقود الأخيرة.
سيكون من البديهي تصوّر أن الأمور ستسير بشكل أصح وأفضل إذا ما حصل تناغم (على الأقل) بين الجهود الروسية لبدء حوار مفيد، ولو جزئي، بشأن الأزمة السورية، وبين تطوير وتوسيع الحرب ضد الإرهاب بالاستفادة من كل إمكانات القوى والدول صاحبة المصلحة في القضاء على ذلك الإرهاب. بكلام آخر، لا يمكن مجاراة أو حتى تفهم الموقف السعودي أو التركي مثلاً، في الإبقاء على أولوية إسقاط النظام السوري إذا كان مسعى إسقاط «دولة» الإرهاب وأدواته هو الأولوية الحقيقية المعلنة في هذه المرحلة. على العكس من ذلك، يجب إحداث تغيير كبير وحقيقي في المواقف والتوجهات والعلاقات، بحيث تحصل عملية خلط أوراق جوهرية تؤدي إلى مد اليد للنظام السوري (فضلاً عن السلطتين الإيرانية والروسية) بما يساعده في أن يأخذ مكانه (على الأرض أساساً) في الحرب على «داعش» ومشروعها، وتسهيل حصوله على كل الدعم الضروري من أجل ذلك. يمكن أن ترافق ذلك مساومات او تفاهمات بشأن المرحلة المقبلة، بما يعزز فرص، وأساساً نهج التسوية، لا بما يعيق، من خلال الاشتراطات والمناورات، ضرورة توحيد كل الجهود في الحرب على الإرهاب.
يقدّم لنا التاريخ غير البعيد مثلاً ينبغي الاحتذاء به حين توحّد خصوم، بل أعداء ألداء، الإرهاب النازي - الفاشي.
يتطلب هذا الأمر استدارة سياسية كبيرة ينبغي أن تباشرها الولايات المتحدة نفسها، وأن تضغط على حلفائها الإقليميين (السعودية وتركيا خصوصاً) للقيام بالشيء نفسه. إن واشنطن أمام امتحان كبير في هذا الصدد: هل هي تحارب الإرهاب أم تستخدمه (أو ما زالت تتوهم بإمكانية ذلك) لتحقيق أهداف توسعية ذات طبيعة استراتيجية في المنطقة؟!
على المقلب الثاني، النظام السوري، مطالب اليوم، كما كان بالأمس، بإبداء رغبة حقيقية في إحداث تحول في سوريا، لمصلحة شعبها ووحدتها واستعادة استقرارها ودورها، لا أن يعتبر أن كل التطورات الأخيرة تصب لمصلحته، بما فيها الحرب على الإرهاب، بحيث يواصل الامتناع عن تبني سياسات مشاركة جدية توفر، وحدها، الأساس الضروري للحل السياسي المنشود والذي من مقدمات وشروط نجاحه القضاء على الإرهاب، من جهة، والتخلي الفعلي عن التفرد والاستئثار، من جهة ثانية.
جلجلة الشعب السوري (والمنطقة) طويلة ولا شك. لن تؤدي المقاربات القديمة سوى إلى إطالة عمر الكابوس الراهن.
الخروج من الأزمة يبدأ بإطلاق مزيد من الإشارات، كما في لقاء موسكو، نحو معالجة باتت شديدة الإلحاح بمقدار ما أن تأجيلها عظيم التكلفة.
* كاتب وسياسي لبناني