لم تتسنَ لي متابعة كل الردود على مقالة «الشيرازيون و«طقسنة» التشيّع»، رغم الحرص على عدم تجاهل «العلمي» منها، وهو قليل على كل حال، ولعل أهمه كان رد الشيخ عبد العظيم المهتدي من البحرين (وكيل مرجعية الشيرازي)، ومقالة إبراهيم جواد المنشورة في «الأخبار» في 13 كانون الأول 2014 بعنوان «الشيرازيون بين المطرقة والسندان!».في المبدأ، تمثّل ظاهرة «النقد» علامة حيوية في أية مدرسة فكرية، فيما تواجه المدارس المغلقة التي تحرم أتباعها من ممارسة حقهم في التفكير الحر والمساءلة والنقد خطر الزوال أو العزلة والجمود، والأخطر النزوع نحو التطرّف والعنف... وعليه، فإن النقد حياة الفكر، فلا يتجدد الا به، وإن أولئك الذين استسلموا لوهم «سلامة المعتقد» توقّف بهم الزمن، وتعطّلت الدورة المعرفية في حياتهم، وراحوا يلوكون أفكاراً بالية منفصلة عن سياقها التاريخي والإنساني.

في الشكل، لست منحازاً ضد شخص أو تيار فكري أو سياسي أو حزبي ما، وليس بمقاربة كهذه يمكن لأي فعل نقدي على المستوى الفكري ان يؤتي ثماره. وإن الحديث عن «التيار الشيرازي» ليس عن شخص ولا عائلة ولا جماعة، وإنما هي هوية عرف بها التيار منذ نشأته، فلو اخترنا اسماً آخر لجهله الناس، وفي كل الأحوال لا مشّاحة في الأسماء.
ولإعادة تصويب مواضع الجدال، فإن من الأفكار التأسيسية التي تصلح كمنطلق ومدخل هي: أن التشيّع يمثّل في صيرورته التاريخية ثورة في الاسلام، ليس على قاعدة الانشقاق عن الشريك السنّي، ولكن على قاعدة التكامل في إدارة حركة الإسلام عبر التاريخ. نعم، هناك من أراد تصويره على أنه ثورة على الإسلام، وبذلك «خسر» الاسلام قوة ثورية كانت دائماً تلعب دور الحارس على حركته، تماماً كما هو الدور الذي لعبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب منذ اختار الصحابة غيره لتولي منصب الخلافة... وما مقولات الخليفة عمر بن الخطاب «لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبا الحسن»، و»لولا علي لهلك عمر» الا دليل على محورية الدور الذي لعبه علي في تسديد موقع الخلافة. نذكر على سبيل المثال، مشورته الحاسمة للخليفة عمر عندما تجمّع الفرس بنهاوند لحرب المسلمين، فكان رأي الناس له هو «النفير إليهم»، فيما كان رأي الإمام علي خلاف ذلك، فقال له: «... إنك إن أشخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات...»، فعدل عمر عن قرار الذهاب بنفسه للحرب، وقال: «هذا هو الرأي كنت أحب أن أتابع عليه».
التجارب اللاحقة تؤكّد هذه الحقيقة أيضاً، منذ تولي ابنه الحسن الخلافة ثم تنازله عنها لاحقاً دفعاً للفتنة ثم ثورة الحسين في كربلاء على خلافة يزيد لتصحيح الانحراف في حركة الإسلام (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي...)، وصولاً الى تجارب باقي الأئمة وتالياً الفقهاء. في الخلاصة، كان يمثّل التشيّع دور الضابط الإيماني والتنظيمي الذي يحول دون خروج الإسلام عن المسار الذي رسمه رسول الله (ص). ولذلك، كان التشيّع يحضر حيث تكون الحواضر الكبرى للإسلام. وإن تحوّل التشيّع الى مذهب للسلطة كان يعني تعطيل ديناميته وروح الثورية، هذا ما جرى في عهد البويهيين، ثم الصفويين وبدايات القاجاريين، وحين تحرّر الفقهاء من قيود السلطة التي تحالفوا معها في وقت سابق أو خضعوا لها قهراً حوّلوا التشيّع الى طاقة ثورية تغييرية منذ ثورة التنباك في ايران في عهد ناصر الدين شاه في نهاية القرن التاسع عشر، ومروراً بالثورة الدستورية بقيادة الملا محمد كاظم الخراساني والشيخ محمد حسين النائيني وآخرين في مطلع القرن العشرين ولاحقاً ثورة العشرين في العراق بقيادة الشيخ محمد تقي الشيرازي، وثورة تأميم النفط في ايران بقيادة الشيخ الكاشاني وصولاً الى الثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني. وفي الخلاصات، أمكن القول إن النهوض الاسلامي في العقود الثلاثة الأخيرة تأثر على مستوى الأفعال أو ردود الفعل بالثورة الإسلامية في إيران التي تأسست على ثورة شيعية في الإسلام.
وبالعودة الى الردود على مقالتي حول الشيرازيين، أبدأ من دعوى التعريض بمعتقدات المذهب، لا سيما الغيب والشفاعة.
هناك مشتركات منهجية بين التفكيكية والوهابية من ناحية العودة الى النص الديني


وحقيقة الأمر أن التعريض ليس بالمفاهيم ولكن بالأفهام، فلا بد من الفصل بين ما هو متعالٍ/ إلهي وما هو بشري، فالكلام ليس عن الغيب كمفهوم ديني وإنما عن الفهم البشري له وتداعياته على السلوك الفردي والجماعي، وكذلك الشفاعة، والتوسّل، والنذر، والحزن... وحين نتحدث عن ثورية التشيّع إنما نعني بذلك فهماً ثورياً للمفاهيم الدينية (الشيعية على وجه الخصوص).
كان التيار الشيرازي يشتغل في بدايات تشكّله وقبل نزوعه نحو الطقسنة المستقيلة على تعميم خطاب ثوري مؤسس على فهم متطوّر للمفاهيم الشيعية. ونذكر على سببيل المثال، كتاب «الثورة الرسالية» للمرجع الحالي في كربلاء محمد تقي المدرسي حين وجّه نقداً شاملاً للمفاهيم المسؤولة عن «تخلّف الشيعة» بحسب وصفه، وشخّص أهم معالم هذا التخلّف من أجل إعادة تظهير الصورة الثورية للتشيّع. تحدّث عمّا أسماه «الطلاق بين الشيعة والتشيّع»، وأعاد تفسير الولاية والامامة والعصمة والغيبة «أي غياب الامام المهدي»، والشفاعة وغيرها. فقال بأن العصمة ليست ذاتية «وانما هي تأييد من الله للإنسان الذي يتجاوز ذاته وواقعه بعد أن يرتفع بارداته الحرة الى مستوى تلقي هذا التأييد»، وتحدّث عن غيبة الامام المهدي وقال: «ليست الغيبة انتظاراً سلبياً لواقع معسول يأتي في آخر الزمان، كما أنها ليست (فراغاً) في قيادة الأمة... إنما هي عملية فصل بين الأشخاص والقيم لكيلا يصبح الأشخاص هم القيم...». وفي هذا كلام كبير وخطير جداً لأنه يشي بانقشاع القداسة عن شخص الامام.
وفي حديثه عن الشفاعة يؤكد السيد المدرسي أن عمل الانسان هو شفيع له يوم القيامة «وحيث تتجسد الولاية في شخص الامام تكون الشفاعة للإمام، والواقع إنها ليست للإمام، وإنما هي لعمل الانسان وتحمله لمسؤولية الانتماء الى الإمام وحبه وطاعته له وتضحيته في سبيل الله تحت لوائه». ويخلص: «وليست الشفاعة بديلاً من الايمان بالله، إذ الشفاعة تكون عند الله، ولا تكون سلطة على الله، بل دعاء إليه، فإن شاء استجاب وإن شاء لم يستجب».
وعلى خطى القراءة الإيديولوجية والثورية التي قدّمها علي شريعتي، يتحدث المدرسي عن تشيّع المسؤولية، ويؤكد في السياق ذاته الاتباع المسؤول لا التقليد الأعمى «الذي يريح الانسان من تبعات التفكير، وحرية الرأي، ومسؤولية الاختيار». يؤكد دائماً المسؤولية، وأن الانسان مسؤول عن تاريخه وصلاحه وفساده.
ينقد المدرسي الثقافة الشيعية السائدة حينذاك والتي جرى إحياؤها مجدداً، وقال بأن ما تبقى من هذه الثقافة الشيعية هو القشرة القائمة على اجترار وتكرار الجدليات والاستمرار في خط العداء ضد كل الفئات الأخرى ومن ذلك «اجترار المآسي والدموع اللامسؤولة» في إشارة الى ذرف الدموع أيام عاشوراء والاكتفاء بها عن العمل. يقول المدرسي في توصيف حاد (ماذا بقيت من الدموع الشيعية؟ بقيت قطرات ماء رخيصة تتساقط على أحضاننا المليئة بالجريمة والفساد لتغسلها ـ كما نزعم ـ ولنقوم من مجلس العزاء محصّنين ضد عذاب الله، وضد محاسبة التاريخ... تماماً كبكاء أهل الكوفة بعد مقتل سيد الشهداء». ويخلص: «أصبحت الدموع وسيلة للتحلل من المسؤولية، بدل أن تكون وسيلة لتكريس المسؤولية، وتعميق الشعور بها». وعلى هذا المنوال قارب المدرسي الفرائض الدينية التي فقدت معانيها وتحوّلت الى مجرد طقوس فارغة المعنى، وانتقل منها الى الطقوس الشيعية: «فأصبحنا نزعم أن لمجرد قراءة الأدعية والزيارات تأثيراً غيبياً في أوضاعنا في الدنيا او في الآخرة... فمن قرأ زيارة عاشوراء أربعين يوماً فسوف تقضي حاجاته في الدنيا والآخرة...». أليس هذا ما يشاع اليوم وما سوف نأتي عليه هنا.
حديث المدرسي عن الغيب له مدلول خاص ويقوم على المقابلة، أي الشهود «وكلما ازداد وعي الانسان كلما استطاع أن يؤمن بالغيب من خلال إيمانه بالشهود. ان يؤمن بالصانع من خلال ما صانع، والزارع من خلال ما زرعه...»، وهكذا هي رسالات الانبياء.
ونسف المدرسي فكرة التمايز على أساس الانتساب للنبي صلى الله عليه وآله، وقال: «إن الذي يزعم أن الله خلق الناس درجات، ثم رفع بعضهم على بعض عبثاً، وأعطى أناساً ما لم يعط آخرين، إنه ينسب الى الله الظلم والجهل والعجز، تعالى ربنا عنه»، بل رفع الاسلام شعار «العمل الصالح» كقيمة أساسية عند الله، وخلص الى أن «التشيع هو العمل الصالح» على أساس أن العمل هو «الطريق الوحيدة لنجاة الانسان».
وانتقد أولئك الذي رفعوا الأنبياء والائمة عن مقام البشر وخاطب من قال بأنهم خلقوا من نور «إذا كان النبي وأوصياؤه من نور، وليسوا من تراب، إذن فما هو فضلهم على الناس؟ كلا... إن الرسول بشر... وأوصياؤهم بالطبع من البشر». ويواصل نقده الى من أضفى قداسة خاصة على سلالة الرسول (ص)، وقال: «زعموا أن أبناء الرسول مكرّمون الى يوم القيامة، حتى ولو خالفوا الله واتبعوا شهوات السلاطين» ورد عليهم قائلاً: «عجباً الرسول لا ينجيه إلا عمله، بينما أبناؤه يدخلون الجنة حبوة؟». وعنّف أولئك الذين يوالون أجساد الانبياء والائمة وليس قيمهم «فإذا بنا نزعم انتماءنا للرسول وإلى الأوصياء، بمجرد حبنا لهم، وتعظيمنا لأجسادهم، ألا تعساً لأمة حوّرت مفاهيمها وبدّلتها من بعد علم».
هذا هو الخطاب الذي كان يعتنقه التيار الشيرازي في مرحلته الثورية، ما وهبه شعبية في الوسط الشيعي، وجعله متميّزاً بحضوره الشعبي ومواكبته لحركة الأفكار الاسلامية عموماً.
التحوّل في تيار الشيرازي مؤسس على منهجية (مستمدة من المدرسة التفكيكية) وهي قديمة ولكن جرى تفعيلها في السنوات الأخيرة لتصبح النجم الهادي للتيار في نزعته الطقوسية.
إن المشكلة اليوم ليست في مجرد رأي في كتاب بل تحويل الرأي الى اتجاه شعبي عام



لا بد من الإشارة إلى أن المنهجية التفكيكية (لا علاقة لها بتفكيكية جاك دريدا)، ليست ابتكاراً شيرازياً، وقد أسبغ الشيخ محمد رضا حكيمي عليها هذا الاسم ولكن جذور تشكّلها تعود الى ثلاثينيات القرن الماضي في خراسان (مشهد) الايرانية.
والمدرسة التكفيكية تتلخص في «تمحيص معارف الوحي من تأثيرات المنطق والفلسفة اليونانية والتأويلية للفلاسفة والمتصوفة والعرفاء»، أي عملية فصل بين العقل والنقل في إطار تحرير النص من آليات فهمه المستمدة من خارج مجاله، أي وفق المناهج العقلية المعتمدة... وهذه المدرسة، في جوهرها، محاولة لفهم المعارف القرآنية بعيداً من مناهج التأويل، أي فصل المعرفة القرآنية عما لحق بها من التأثيرات الكلامية والصوفية والفلسفية، وكذلك الحال بالنسبة للسنّة (الحديث النبوي وروايات الأئمة)، وهي عودة الى العقيدة التقليدية أي فهم القرآن والسنّة بآليات مستمدة منهما (على غرار المقولة الشائعة تفسير القرآن بالقرآن). في الخلاصات، تقدّم المدرسة التفكيكية رؤية منهجية خاصة تقوم على الفصل ما بين الأفهام البشرية والمفاهيم الالهية، ما يعيد الإشكالية مجدداً الى النزعة السلفية التي ترى بأن فهمها الخاص للنص هو نهائي، رغم أنها تبقى في نهاية المطاف مجرد فهم (أنظر: محمد رضا حكيمي، المدرسة التفكيكية، ترجمة عبد الحسن سلمان وخليل العصمامي، دار الهادي، بيروت الطبعة الأولى 2000).
تفريق الحكيمي بين مدرسة الوحي (الدين ـ القرآن)، ومدرسة العقل (الفلسفة ـ البرهان)، ومدرسة الكشف (الرياض ـ العرفان)، لا يغيّر من حقيقة أن «المدرسة التفكيكية» تندرج هي الأخرى في خانة الأفهام البشرية للنص الديني، بل هناك ما هو أخطر من ذلك، إن عزل العقل عن عملية فهم النص سمح لعناصر غير عقلية مثل «الذوق» و«الاستحسان» و«الانكشاف» بالتدخّل لجهة إرساء «صلاحية» مفتوحة لمئات إن لم يكن آلاف الرويات من دون التحقّق في صحة وسقم الكثير منها... الطريف أن الحكيمي في تأكيد نقاوة النص الديني بمعزل عن المؤثرات الخارجية لا ينكر وجود الفلسفة الإسلامية باتجاهاتها المتباينة: المشائية والاشراقية والاسكندرانية.
إذن، الكلام ليس مجرداً عن «نص» مقابل «نص» كما توحي جداليات «التفكيك» بل هو في الحقيقة «نص» مقابل أفهام متعدّدة، وهنا مكمن الخلاف الحقيقي. لأن العودة الى «القرآن والسنة» بحسب الاتجاهات النقلية (الحنبلية السلفية/ الشيعية الاخبارية) في التاريخ الاسلامي كانت دائماً محفوفة بخطر الحشوية والاختراق، بمعنى التساهل في التعامل مع الروايات ما يجعل إمكانية اندماجها في البنية الدينية راجحة. وبعيداً من البحوث اللفظية لفهم النص الديني لناحية فهم دلالاته وأحكامه، ومشتقات الألفاظ وما تحمله من مداليل، إلا أن العودة الى النص ذاته لفهمه بنص مماثل من سنخه أو من ظاهر النص نفسه يعود بنا الى الحقيقة ذاتها أن النص يفقد استقلاله وتجرّده في اللحظة الذي يصبح في متناول عقول البشر، وبالتالي فإن التمايز عن مؤثرات خارجية أو استقلال ذاتي للنص مجرد جدل في مناهج فهم النص. وإن القول بأن لا جامع مطلقاً بين العلوم البشرية والعلوم الالهية يزيد في تعقيد فهم النص الديني ولا ينقذه من المؤثرات الخارجية (الفلسفية والصوفية...)، لأن الفصل بين البشري والالهي ليس واقعياً، وإن مرجعية النص حتى وإن توسّلت النص الديني نفسه تبقى بشرية على مستوى الاختيار في الحد الأدنى. ما يبعث على الغرابة، أن الذين يشرحون مدرسة التفكيك يتوسّلون لغة فلسفية ليست مستمدة من النص الديني!
تعريف المدرسة التفكيكية للعقل يختلف تماماً عن تعريفه في المدارس العقلية الأخرى. فالعقل هنا بحسب ما تكشف عنه الروايات الشيعية المبكرة (الكافي للكليني مثالاً)، تضع أربعة أبعاد للعقل: الأول، البعد الكوني، حيث العقل، المتنزّل من نور الله، فكان المخلوق الالهي الاول، الثاني البعد الاخلاقي ـ المعرفي، حيث تكون للعقل قابلية أو قوة فطرية للمعرفة العلوية أو المتعالية، الثالث، البعد الروحي، حيث يكون العقل مصدر الايمان، أو «الحجّة الباطنة»، والرابع، البعد الخلاصي الانقاذي في عملية الحساب يوم القيامة، حيث يخضع بنو البشر للحساب على قدر عقولهم. فالعقل هنا ليس منفصلاً عن فضاء النص، بل هو جزء من مجاله الحيوي، وهو مصمّم للحصول على الحقائق النورانية لاندماجه في فضاء النص وحركته. ولذلك يعرّف الأصفهاني العقل بحسب العلوم الالهية «النور الظاهر بذاته لكل من هو واجد له». في حقيقة الأمر، هذا التعريف المحدّد للعقل ليس عقلاً مجرّداً ولا حرّاً ولا تمكن ممارسة عملية عقلية مستقلة بل هو أداة تظهير النص وفق فهم محدّد، وهذا الفهم بحد ذاته عملية عقلية، وهذه العملية بالقطع ليست نهائية ولا جزءاً حميمياً من النص الديني. بالمناسبة، هناك مشتركات منهجية بين التفكيكية والوهابية من ناحية العودة الى النص الديني (الكتاب والسنة) على أساس دعوى أن فهمهما ليس بحاجة الى أدوات أخرى منطقية وأصولية ولغوية، على أساس أن النص واضح وجلي!
تيار التفكيكية (ومثاله الأبرز الشيرازية) جمع بين سيئات الخطّين: الأخباري والشيخي. وبالرغم من أن المدرسة الأخبارية شهّدت تطوّراً جوهرياً على مستوى المنهج، أي طرق التحقيق في صحة الرواية ووضعها أو ضعفها، الا أن المرجعيات الشيرازية (ونخّص بالذكر السيد محمد الشيرازي، والسيد صادق الشيرازي والسيد محمد تقي المدرسي) من بين مرجعيات أخرى خارج التيار أيضاً، اعتمدت منهجية الميرزا مهدي الأصفهاني (ت 1946) في فهم النص الديني (الشيعي هنا) كما هو بمعزل عن أدوات أخرى فلسفية ومنطقية وأصولية. في آليات فهم النص الديني يضع الأصفهاني الإمام المعصوم كمرجعية وحيدة في فهم القرآن، ولكن السؤال: ومن يثبت ان رواية ما بحد ذاتها صادرة عن الإمام من دون الرجوع الى مناهج التحقيق اللغوية والأصولية والتاريخية وغيرها.
وبحسب التحقيق الذي قام به الشيخ محمد باقر المجلسي مؤلف «بحار الأنوار» في كتاب «الكافي» للكليني فإن من أصل 16.199 رواية هناك 9.485 رواية ضعيفة أو مجهولة. وإذا أضفنا الى ذلك أن ثلاثة أرباع الروايات الشيعية الواردة في الكافي منسوبة الى الامامين الباقر والصادق عليهما السلام يكون كثير مما يروى عنهما يقع في خانة الروايات الضعيفة أو المجهولة.
ما يعتقده البعض بأن المدرسة التفكيكية هي أقرب الى أهل البيت عليهم السلام على مستوى التعامل مع الرواية الدينية من دون إعمال العقل ومناهج التحقيق، هو ما فتح الباب على مصراعية أمام اعتناق الشيء ونقيضه، لأن المجاميع الروائية الشيعية خضعت لعملية دس واسعة النطاق من قبل أناس مقرّبين من الائمة ومن رواة كبار يحيطون بهم ولاتزال آثارهم باقية.
إن أولئك الذين دافعوا عن المدرسة التفكيكية إزاء تهمة «الاخبارية» أخفقوا في تقديم فروقات جوهرية بينهما. وحتى على مستوى العقل الذي يحتج به التفكيك كفارق عن الاخبارية ما هو في الواقع سوى العقل المندمج في سلطة النص، وجزء من فضائه، وإن الأخبارية خصوصاً في مرحلتها المتطوّرة (الفرقة الوسطى) بدت أقرب الى الاتجاه الأصولي في إعمال العقل في فهم وتحقيق النص. وإن مجرد اعتراف المدرسة التفكيكية بالمنهج الأصولي في فهم النص الديني عنى التناقض في دعوى المدرسة التي تراهن على النص الديني في تظهير معناه، بينما المنهج الأصولي المستمد من خارج النص مصمّم لفهمه.
كل ما سبق يبقى في إطاره النظري، والعبرة في الآثار العملية. فحين نقول بأن النقلة الانقلابية في تيار الشيرازي من الثورية الى التقليدية الطقوسية لم نقصد انتقالاً ثقافياً بل منهجياً. وحين نتحدث عن النزوع الحشوي في التيار والجمع بين سيئات الأخبارية والشيخية، هناك من الأدلة ما يكفي (ومن شاء فليرجع الى موسوعة الفقه للسيد محمد الشيرازي التي بلغ عدد أجزائها المئة والخمسين وفيها يظهر الحشد الروائي غير المحقق).
وسوف نتوقف عند مثالين لبيان النزعة الطقوسية المتعاظمة لدى تيار الشيرازي والمتناقضة مع الرؤية الثورية للتشيّع كما صاغها رموز التيار في مرحلة سابقة.
المثال الأول: كتيب للسيد محمد الشيرازي بعنوان «السيدة أم البنين» في الطبعة الثانية سنة 2000. وأم البنين هي فاطمة الكلابية زوج الامام علي بن أبي طالب وأم لأبنائه الأربعة العباس وجعفر، وعثمان، وعبد الله وقد استشهدوا جميعاً في كربلاء مع أخيهم الامام الحسين.
طبّق السيد الشيرازي الرواية المنسوبة الى الامام الرضا عليه السلام في حق أخته فاطمة المدفونة في قم «أن من زارها عارفاً بحقها وجبت له الجنة» (ونقلها عن كتاب عيون أخبار الرضا وبحار الانوار وسفينة البحار)، فطبّق الرواية على أم البنين، من دون تحقيق في أصل الرواية سنداً ومتناً وشرعاً وعقلاً، وقال في ص 18: «وهكذا بالنسبة الى ما للسيدة الجليلة أم البنين من المعنوية العالية والمقام العظيم... حيث يمكننا أن نحس بشيء من ذلك عبر ما نراه من الآثار المترتبة على التوصل بها وجعلها شفيعة عند الله عزوجل في قضاء الحوائج...». وزاد على ذلك «فإن النذر لها يحل المشاكل الكبيرة التي هي بحاجة الى الإمداد الغيبي من الله سبحانه، كشفاء المرضى الذين لا شفاء لهم بحسب الظاهر، وإعطاء الأولاد لمن لم يرزق ولداً، ودفع البلايا وغير ذلك...»، ويعلّق «وهذا مما عليه ألوف القصص من المشاهدات والمنقولات...». وحتى يخلي المسؤولية يحيل الأمر على القصور الذهني (وهذا شيء لا تصل الى معرفة كنهه عقولنا).
وخصّص باباً بعنوان «إحياء الذكرى» واعتبرها «من أهم ما يلزم» (ص 31). وفي باب «الكرامة الالهية» يقول: «وأم البنين صاحبة الكرامات الكثيرة التي نقلت عنها متواتراً وشوهدت كذلك، وذلك بالنذر أو التوسل بها لتشفع عند الله...». ويعلّق: «وقد سمعت طيلة حياتي كثيراً من كراماتها المتواترة...» (ص38). وفي باب «زيارة قبرها» يقول: «ومن الاصح أن تراب قبرها الطاهر له الأثر الخاص...»، ثم يقول: «ولا يبعد بقاء جسدها في القبر... وإن لم أجد لذلك نصّاً...» (ص 42).
حين المقارنة بين هذه القراءة للتاريخ بتلك التي عرضناها في «الثقافة الرسالية»، ألا يظهر الفارق جليّاً بين تشيّع المسؤولية وتشيّع الاستقالة، بل بين تشيّع «العمل الصالح» وتشيّع «التحلل»، ومن ثم تشيّع الثورة وتشيّع السكون.
المثال الآخر، ولكن عن عقيدة التفويض التي بدت راسخة في التيار الشيرازي في السنوات الأخيرة. في كتاب السيد محمد الشيرازي «فاطمة الزهراء عليها السلام (ط 1999)» وكتاب «فاطمة الزهراء امتداد النبوة» ينطلق من حديث قدسي مزعوم يخاطب فيه الله نبيّه المصطفى (صلى الله عليه وآله) قائلاً: «لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة ما خلقتكما»، ثم يشرح الحديث «فالمحقق للغرض من الخلقة هو وجود الرسول وفاطمة الزهراء والائمة الأطهار...». ويضيف: «فلولاهم لكانت خلقة العالم ناقصة...». وراح يسهب في شرح هذا الحديث وأحاديث أخرى ضعيفة تنتهي للقول بأن النبي والائمة مع فاطمة الزهراء هم «أساس خلق الكون، وقد جعلهم الله الوسائط في خلق العالم والعلّة الغائية له... فلولاهم لساخت الأرض، ولهم بما فيهم السيدة فاطمة الزهراء الولاية التكوينية إضافة الى التشريعية... ومعناها أن زمام العالم بأيديهم حسب جعل الله سبحانه، كما ان زمام الاماتة بيد عزرائيل فلهم التصرف فيها إيجاداً وإعداماً» (ص 110). والكتاب كله تقريباً ينتصر لعقيدة المفوّضة ويتطابق في مضمونه مع كتاب الشيخ أحمد زين الدين الاحسائي «شرح زيارة الجامعة». والسؤال: أين هذا الحديث من مرجعية القرآن ومعارفه، وأين هو من آية «وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون».
إن مجرّد تبني غير الشيرازية لهذا الرأي لا يعني تبرئة سواهم، بل يزيد الحاجة الى فصل ما هو تشيّع خالص ونقي وما هو غلو ومدسوس. ولا بد من توضيح نقطة جوهرية: إن الثورية لا تتموضع في مقابل الغلو وإنما في مقابل التقليدية، ومن الناحية التاريخية فإن الكثير من الفرق الثورية الشيعية كانت تعتنق معتقدات غلوائية بدءاً من حركة التوابين بقياد سليمان بن صرد الخزاعي، والمختار بن عبيد الله الثقفي، وبيان بن سمعان، وعبد الله بن معاوية، والمغيرة بن سعيد، والصائد النهدي، والحارس الشامي، وعبد اللّه بن حارث، وحمزة بن عمار البربري ومحمد بن أبي زينب واسمه مقلاص بن الخطاب ويعرّف أبو الخطاب. فهؤلاء كانوا ثوّاراً في زمن الأمويين ولكنَّ الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام ذاقا الأمرّين منهم لكثرة ما دسّوا من روايات في كتب أهل البيت، وتسلّل كثير منها الى المصادر الروائية الشيعية.
إن المشكلة اليوم ليست في مجرد رأي في كتاب، بل في «جمهرته» أي تحويل الرأي الى اتجاه شعبي عام، وهنا مكمن الخطورة. وقد لحظنا كيف تحوّلت القنوات الفضائية التي يموّلها ويشرف عليها الشيرازيون الى أدوات لترويج أفكار الغلو التي تنتهي الى تخدير الوعي الديني، فكل من أراد التحرر من المسؤولية وجد في تلك القنوات بلسماً زائفاً. وإن الكلام ليس عن شخص نكرة ومشبوه في لندن، فماذا عن شقيق المرجع، مجتبى الشيرازي المفتون بكل ما هو بذيء من اللفظ ضد رموز المسلمين السنّة والشيعة على السواء... فهل صدرت فتوى من المرجعية الشيرازية السابقة واللاحقة تتبرأ من أفعاله؟ وليس الأمر مقتصراً على شقيق المرجع بل هناك من أبناء المرجعين محمد الشيرازي وصادق الشيرازي من يدير قنوات فضائية فتنوية ويدعو الأتباع للتبرّع لها. وفي مثل هذه الأجواء الموبوءة أعيد إحياء موبقة السب واللعن لرموز المسلمين، وهل غير تلك القنوات من سنّ تلك السنّة السيئة؟!
ما يفعله التيار الشيرازي على مستوى الرموز هو عملية إحياء روائي منفلت، تقوم على مزاعم متهافتة كالقول بنهاية زمن التقيّة، وإحياء ما اندرس من علوم آل محمد. في واقع الأمر، هو عملية إحياء لتراث فرق الغلو وطقوسها ومعتقداتها التي أوقفت شعر الامام الصادق عليه السلام حين سأله يحيى بن عبد الله: إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب، قال: سبحان الله، ضع يدك على رأسي، فوالله ما بقيت شعرة في جسدي إلا قامت. ثم قال: لا والله إلا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله (أنظر: رجال الكشي والأمالي وبحار الأنوار).
* أستاذ حوزوي ـ العراق