من جديد يضرب الإرهاب عمق الغرب، وتحديداً فرنسا. ثلاثة رجال ملثمين ينفّذون هجوماً مسلّحاً على مكاتب مجلة «شارلي ايبدو» ويقتلون أكثر من عشرة أشخاص بين صحافيين وشرطيين.من حيث الشكل، نسجّل بعض الملاحظات. إن هذا العمل الإرهابي مميّز وجريء. فهو هجوم مسلّح بكل معنى الكلمة، وليس عبوة ناسفة وضعت في سيارة أو في حقيبة يد وتم تفجيرها عن بعد. إن تنفيذ الهجوم يظهر كفاءة عالية واحترافاً لدى المهاجمين في التخطيط والتنفيذ، ما يدلّ على أن العملية ليست صنيعة ثلاثة شبّان إنما تنظيم معيّن محترف. فالمعتدون أتوا بأنفسهم الى «الهدف».

دخلوه برشاشاتهم وصواريخهم. وربما اختاروا أهدافهم بعناية، وفي مقدمها رسّامو الكاريكاتور. وقد نفذوه في وضح النهار في وقت تكون فيه الشوارع الباريسية، على رغم موجة الصقيع، تعج بالناس ورجال الشرطة. ونجحوا بالفرار أو الانسحاب.
في الجغرافيا ــ الديموغرافية، صحيح أن المهاجمين كانوا يقصدون مكاتب مجلة «شارلي ايبدو»، ولكن وجود هذه المكاتب في المقاطعة الحادية عشرة كان عاملاً مساعداً في نجاح العملية وفرار الإرهابيين. فهذه المقاطعة تقع شرق العاصمة على حدود المقاطعتين التاسعة عشرة والعشرين المحاذيتين لضواحي باريس ذات الغالبية المسلمة.
التصريحات العنجهية الفرنسية والإجراءات الأمنية والإدانات الدولية بلا قيمة
والبرهان على ذلك هو خروجهم من باريس عبر «بوابة بانتين» (Porte de Pantin) في المقاطعة التاسعة عشرة. هناك تركوا سيارتهم واستقلوا سيارة سرقوها. إن السلطات الفرنسية والمحلّلين لم (وربما لن) يثيروا هذه المسألة خشية من إثارة نقمة مسلمي فرنسا والعالم الإسلامي في المغرب والمشرق حيث لفرنسا مصالح حيوية. ولكن التحقيقات الجارية والآتية ستكشف كل، أو جزءاً، مما هو غير معلوم اليوم.
أما لماذا «شارلي ايبدو»، فالسبب أصبح معلوماً لحظة وقوع الهجوم من خلال صرخة المهاجمين بأنهم يثأرون للنبي محمد! إنه ردّ من هؤلاء المسلمين، وربما هذا «التنظيم» الإسلامي، على الكاريكاتور الذي كانت قد نشرته المجلة قبل عامين ويتناول النبي محمد بطريقة ساخرة. ولكن هذا الهجوم يندرج أيضاً في إطار الصراع المفتوح منذ سنوات، لا بل منذ عقود، بين الإسلاميين والغرب «المسيحي» (نضع المسيحي بين قوسين لأن الإسلاميين يعتبرون أن الغرب مسيحي، في حين أن أنظمة الدول الغربية علمانية).
المسؤولون عن هذا الصراع ليسوا فقط مهاجمي «شارلي ايبدو» أو منفذي العمليات الانتحارية في الماضي ولا القاعدة ولا الدولة الإسلامية ولا حتى بن لادن، إنما أيضاً أنظمة وسياسات في الشرق والغرب.
الأنظمة العربية، التي سقطت والصامدة «حتى الآن»، يكمن خطأها في أنها مارست بغالبيتها سياسة الارتماء في أحضان الغرب لتأمين بقاء زعمائها في السلطة. أليس هذا ما فعله حسني مبارك الذي تربّع على «عرش» السلطة في مصر لمدة ثلاثة عقود؟ أليست حال زين العابدين بن علي في تونس؟ أليس هذا ما تفعله أنظمة دول الخليج العربي، حفاظاً على مَلَكياتها وإماراتها؟! سياسة هذه الأنظمة لم ترُق الشعوب العربية ذات الغالبية المسلمة، ما دفع بها، أو ببعضها، نحو التطرّف الإخواني أو القاعدي، والآن الداعشي... واستطراداً، فإن سياسات الأنظمة العربية هذه كانت سبباً أساسياً لصعود النفوذ الإيراني في المنطقة العربية. فقبل تظهير الصراع السني ــ الشيعي، إثر سقوط نظام صدام حسين، وجدت شرائح واسعة من هذه الشعوب أن الثورة الإيرانية تمثّل تطلّعاتها من حيث دعمها للمقاومات العربية المسلّحة في وجه الاحتلال الإسرائيلي وفي تحرّرها من الهيمنة الأميركية الداعمة لإسرائيل.
أما مسؤولية الغرب فهي لا شك كبيرة. فبعد إعطاء كل من فرنسا وبريطانيا الاستقلال لدول المشرق العربي ومغربه، استمر في التدخّل في شؤونه واستغلال خيراته، وأبرزها النفط. وقد ورثت الولايات المتحدة الأميركية مع بدء الحرب الباردة هذا النفوذ وطوّرته حتى أحكمت سيطرتها على المنطقة (كما على مناطق أخرى في العالم) بواسطة قوتها الناعمة قبل القوة العسكرية. وما زاد الطين بلّة التدخّل العسكري الأخير في كل من أفغانستان والعراق. واليوم ضد الدولة الإسلامية في العراق والشام.
سياسة الولايات المتحدة الاستغلالية للشعوب العربية والاستكبارية عليها والداعمة لإسرائيل كانت السبب الأساسي لنقمة هذه الشعوب ضد الدول الغربية. يُضاف إليها استغلال واشنطن للإسلام الأصولي في حربها الباردة ضد موسكو وعدم مشاركتهم الانتصار في ما بعد.
هذه الأسباب أوجدت في المجتمعات العربية أرضاً خصبة للتيارات الإسلامية الأصولية لجذب بعض من الشباب المسلم الى عقيدتها الدينية السلفية وتطويع عناصر لتوجيه ضربات موجعة للدول الغربية، كانت أبرزها تفجيرات نيويورك في عام 2001، وإحداها هجوم «شارلي ايبدو» بالأمس... وبالتالي، فإن الصراع مفتوح بين الجماعات الإسلامية المتطرّفة والغرب منذ تسعينيات القرن الماضي. وهو بنسبة معيّنة صراع بين حضارتين مختلفتين بالعمق. وأحد مظاهر هذا الاختلاف بينها، احترام الحضارة الغربية لحرية التعبير حتى تجاه «مقدّسات» الأديان (فرسوم «شارلي ايبدو» الساخرة لم تتناول فقط النبي محمد، إنما أيضاً رموز دينية مسيحية ويهودية وبوذية وغيرها). وحضارة إسلامية، بمعتدليها وأصولييها، لا تحتمل التعرّض لنبيّها ومقدّساتها وتكفّر بشكل أو بآخر صاحب الفعل. أليس هذا ما أظهرته ردّات فعل أنظمة ومرجعيات ومجتمعات إسلامية على محاضرة البابا بنديكتوس السادس عشر في إحدى الجامعات الألمانية في عام 2007؟
إن نشاط التيارات الإسلامية الأصولية من الإخوان المسلمين الى «القاعدة»، وصولاً الى الدولة الإسلامية، يظهر أنها لا تمثّل الغالبية في الشارع الإسلامي. وهذا ما أكّدته الثورة الثانية في مصر، والانتخابات الأخيرة في تونس. ولكن إرهابها سبب من أسباب زيادة شعبية التيارات المتطرّفة في الغرب، مثل «الجبهة الوطنية» في فرنسا، ما يشير الى استمرار الصراع بين الشرق والغرب وخاصة مع تثبيت نظام إسلامي في تركيا، على الحدود بين الشرق والغرب، يطمح لأن يتزعّم الشرق الإسلامي بعدما رفضه الغرب «المسيحي» المتمثّل بالاتحاد الأوروبي.
* أستاذ جامعي