كثيرة هي النصوص التي قُرئت أو أُوِّلت اعتماداً على محمولها اللغوي وليس الفكري، فأتت بعيدة عن عمق المقصود منها. من هذه النصوص ما ورد في البيان الشيوعي عن العلاقة بين الرأسمالية الأوروبية المتقدمة والمستعمرات المتخلفة. ودائماً كان النص كما يلي: "... فالبرجوازية مع التحسين المتواصل لأدوات الإنتاج، وبالتسهيلات الملموسة لوسائل الاتصال، تقوم بجرّ مختلف، وحتى أكثر الأمم بربرية، إلى الحضارة... إنها ترغمهم على إدخال ما تسميه الحضارة في بنيتهم، مثلاً، ليصبحوا هم أنفسهم برجوازيين. وبكلمة واحدة، إنها تخلق عالماً طبقاً لتصورها". ارتكازاً على القراءة الحرفية لهذا النص تغنَّى الكتاب البرجوازيون، ولاحقاً العرب منهم بأن ماركس كان مركزانياً أوروبياً. فقد اكتفوا بالتقاط المعنى الشكلي وابتعدوا غالباً بقصد عن المضمون. هذه الكلمة المحددة، محاولة لفهم ما قصده ماركس/ إنجلز في ما يخص قيام الأمم المتقدمة رأسمالياً بإعادة صياغة الأمم المستعمرة على شاكلتها. ما المقصود بـ "شاكلتها" أو "صورتها"؟ هل قصد رسملتها بالمعنى الحقيقي أم صياغة المستعمرات طبقاً لمصالح المركز؟ هذا مع العلم أن ماركس كان هدفه ليس رسملة العالم بل القضاء على الرأسمالية. فهل كان سيبتهج لرسملة بلدان المحيط/ المستعمرات وحسب؟ هذا إن صح أنها ترسملت كما يبدو من ظاهر النص. فماركس نفسه كتب أيضاً: "... لقد نشطت الشركة الهولندية (أي شركة الهند الشرقية لهولندا) لوحدها مدفوعة بروح الكسب... وشغلت كل ماكينة الطغيان الموجودة لتعصر من السكان أقصى ما يمكن لديهم من قوة وصولاً الى بقايا قوة عملهم ومن ثم أيقظت شياطين التقلب والحكومات شبه البربرية بتشغيلها من قبل الساسة معدومي المصداقية إلى جانب مختلف التجار الاحتكاريين الأنانيين" [1]. وهو الذي كتب: "إن عظام عمال القطن تملأ سهول الهند" و"لقد جاء راس المال إلى العالم يقطر دماً من رأسه إلى أخمص قدميه". إن قراءة دقيقة لا توحي بما تم التعارف إليه بأن ما قصده ماركس بأن المركز الرأسمالي سوف يحوّل المحيط (المستعمرات) حينها إلى أو يُدخلها إلى المرحلة الرأسمالية بمعنى أن يصبح كل العالم رأسمالياً بالمعنى الصناعي المتقدم تكنولوجياً. يقوم استنتاجنا هذا على عاملين: الأول: إن عبارة "إنها تخلق عالماً طبقاً لتصورها" لا تعني الضبط مثلها، بل كما تتصور أو ترغب ان يكون هذا العالم. وهذا يمكن فهمه كما تتصوره أن يكون طبقاً لمصالحها، لأن هذا ما حصل، أي في خدمة مصالحها. وهذا قريب من طبيعة أو هدف الاستشراق الذي خلق للشرق صورة كما يريدها الغرب له وليست كما هي حال أو جوهر الشرق نفسه. وقريب كذلك من حرب راس المال الغربي في السنوات الأخيرة ضد الوطن العربي بزعم دمقرطة العراق ومن ثم ليبيا وسوريا... الخ، بينما يقوم بـ"إعادة تشكيل" هذه البلدان طبقاً لمصالحه اي تدميرها.
قد يصح التشكيك في أطروحة ماركس لو كان ينتهي
عند رسملة العالم
والثاني: هو ما كتبه ماركس نفسه عن عسف الاستعمار ونهبه للمحيط سواء عن إيرلندا أو الهند. وهذا الاستغلال البشع كما يصفه ماركس نفسه لا يوحي قط بأنه اعتقد بأن الراسمالية الأوروبية تهدف إلى تطوير المستعمرات بل تجليسها في بنية النظام الراسمالي كتابع دائم حسب مصالح تلك الراسمالية. تدعم زعمنا هذا بحوث كثيرة عن سياسات الغرب الأوروبي في أفريقيا خاصة. كثير ممن عالجوا مسألة أنماط الإنتاج والأنثروبولوجيا من مدخل ماركسي وخاصة في الحالة الأفريقية توصلوا إلى أن نمط الإنتاج السلالي يقوم على العلاقة السلالية كينشب، Kinship وأن اساس تماسكه وجود طبقتين المشايخ والبقية (العبيد) وأنه كان يعيد إنتاج نفسه بالمتاجرة بالعبيد وبأن قوته من قدرته على توفير عبيد للبيع. وأساس هذه الأطروحه أن علاقة المتاجرة بالعبيد في الفترات الراسمالية الأولية أي المرحلة التجارية (الميركنتليلية) وحتى بداية الراسمالية الصناعية لم تهدف ولم تقد بالتالي إلى تفكك النمط السلالي بل حافظت عليه. وهذا تأكيد أن عدم التطور أو التحول ليس بسبب انعدام الدينامية/الفاعلية والحيوية الداخلية في النمط السلالي مما أبقاه على حاله أو أنه كان في حالة اشتباك تمفصل/ صراع مع نمط الإنتاج الراسمالي الاستعماري المتقدم، بل بسبب تحالف مصلحي بين المشايخ والراسمالية الغربية. وهذا يعزز تفسيرنا أعلاه لمقولة ماركس بأن الراسمالية المتقدمة تخلق المستعمرات على شاكلة مصالحها وليس على شاكلة بنيتها ومحرك تطورها. بدوره يجادل سمير أمين بأن ماركس "لم يجمل البعد العالمي في تحليله. وذلك من جهة لأنه لم يدخل في تحليله البعد العالمي للراسمالية، ومن جهة أخرى لم يربط بين مسألة السلطة (السياسية) وبين الاقتصاد (الراسمالي وما سبقه من اشكال) وبأنه (أي ماركس) استثنى من هذا النقص الأخير عرضه الرائع للثورات الفرنسية [2]". والحقيقة أن ماركس كان إلى حد كبير محصور في أوروبا أو بأي حال من التوسيع في المركز. هذا بغض النظر عن تهم المركزانية الأوروبية أم لا، ولكن الخلل كان في أن تناول المركز كان يشترط تناول المحيط لا سيما أنه تناول المحيط بالسلب، مديحه لـ "رسملة" الهند وتغني إنجلز بفتك الاستعمار الفرنسي بالمقاومة الجزائرية حينها [3] وكذلك تمجيد إنجلز نفسه لثورة عبد القادر الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي [4]. وعليه، فإن مختلف القراءات البرجوازية وبخاصة من مدخل إيديولوجي لا تخلخل الأساس الذي أرساه ماركس لفهم ومواجهة الرأسمالية مهما كانت محاولات أولئك المفكرين البرجوازيين والوسطيين اتهام الماركسية بالاقتصادوية. وبقول آخر، كان ماركس مشدوداً إلى دور الراسمالية وكان يرى بعين ثاقبة أهميتها/ خطورتها على البشرية والتاريخ، ولأنها كانت متركزة في أوروبا، كان طبيعياً أن يحصر شغله الفكري هناك. لا أعتقد أنه كان يحتقر المستعمرات، لكنه، كما أرى، كان على ثقة أن الراسمالية سوف تصوغ المستعمرات (لاحقاً المحيط أو العالم الثالث) على شاكلة مصالحها وربما كان هذا الاعتقاد تحديداً هو الذي جعله يحصر تركيزه في المركز. وبغض النظر عن تخالف التقديرات بأن العالم ترسمل في هذا القرن أو ذاك من القرون الأخيرة، إلا أن تركيز ماركس على أوروبا الرأسمالية كان صحيحاً. ولكن هل خلقت بقية العالم على شاكلتها؟ بالطبع لا. لكن هذه المسألة أي "على شاكلتها" ربما من المفيد إعادة قرائتها. ولا أقصد هنا التفسير أو التأويل أو الفتوى مشايخية بل اقصد أن ماركس، على الأغلب قصد أن الرأسمالية الأوروبية سوف تخلق بقية العالم اي المستعمرات طبقاً لما تقتضيه مصالحها، وهي قد عملت، وها هي لا تزال تعمل على ذلك. وقد يصح التشكيك في أطروحة ماركس لو كان ينتهي عند رسملة العالم، بمعنى أن هدفه كان الاشتراكية فالشيوعية أي ان الراسمالية هي مرحلة انتقالية ويجب الثورة ضدها وتغييرها. ولا أخال أي ذي بصر وبصيرة يمكن أن يجادل لو أوردنا هنا مثال الخليج النفطي العربي. فالرأسمالية، دعونا نقول الغربية، جميعها لها ما يسمح بتحويل تلك المنطقة، أي الخليج، إلى رأسمالية نظراً لتوفر السيولة المالية واستجلاب ملايين العمالة السوداء والفنية من العالم وخاصة من آسيا، ووجود التكنولوجيا الغربية المتطورة... الخ. لكن رأسمالية المركز شكَّلت هذه العجينة النفطية تماماً طبقاً لمصالحها، أي رأسمالية مشوهة استهلاكية ريعية لا إنتاجية وبالتالي محرومة أو حرمت نفسها من مختلف أبعاد الحداثة. بل ورأس حربة ضد الحداثة والعلمانية نيابة عن الرأسمالية الغربية التي تدّعي لنفسها عكس ذلك! فقد فرزتها/ فصلتها عن ارتباطها الجغرافي ومن ثم القومي اي الوطن العربي، وعينت فيها أنظمة حكم من التبعية بمكان بحيث تم تشكيلها تماماً طبقاً لمصالح المركز الراسمالي أي كسلطات مشيخية حقاً تتحكم بمستويين من العبيد: ــ العبيد المواطنون، وهنا العبودية بمعنى غياب الحريات بمختلف أشكالها وخاصة النساء، وفصلهم إلى طبقتين إن جاز التعبير، طبقة المستفيدين المباشرين من السلطة تتجلى عبوديتهم في التنفُّع من الريع ومن ثم التوحش الاستهلاكي وعدم مناقشة السادة في أي أمر وكأن الحاكم هو الخالق. وطبقة الفقراء وخاصة في السعودية الذين يعيشون على هامش الحياة بالمفهوم الأولي للإنسانية. ـــ العبيد المستجلبون كعمالة بلا حقوق يتم استغلال قوة عملهم من دون حدٍّ أدنى من حقوق العمال مما يجعل عقود العمل، اي كون العامل يتعاقد على بيع قوة عمله كما هو في ظل الرأسمالية وبخلاف العمل لدى الإقطاعي، فإن هذا التعاقد بناء على طبيعة وظروف العمل هو أقرب إلى العبودية أي لا تنطبق عليه شروط العمل المأجور، هذا ناهيك عن استجلاب النساء للعمل المنزلي بما فيه من عبودية واستغلال جنسي كذلك. ولا يقتصر تحالف رأسمالية المركز مع النمط السياسي المشايخي في الخليج على عبودية العمل، بل يمتد إلى دورها في العداء للأمة العربية وهو الذي وصل في السنوات الأخيرة، بعد ضعف الجمهوريات، إلى الشروع بحروب ضد الأمة العربية بالإنابة عن الراسمالية في حقبة العولمة. وهذا يؤكد صياغة الراسمالية المتقدمة لهذه المشيخات على شاكلة مصالحها. لقد علَّمت الراسمالية الاستهلاكية الغربية الطبقة الثرية/ الريعية من المجتمع البدوي المتقشف بالطبيعة كيف يتحول إلى مجتمع استهلاكي ناعم كلياً بحيث لا يدافع حتى عن وطنه راضياً بأن عشرات القواعد العسكرية الغربية تجثم على أراضي وطنه. أما الحرب على اليمن المسماة (عاصفة الحزم السعودية ضد اليمن) فتستجلب جنوداً من كل مكان. جعلت استهلاكية الطبقة الثرية في الخليج من المنطقة سوقاً استهلاكية مريضة حقاً. بمعنى سيولة مالية ريعية لم يتم بذلها من عمل إنتاجي مما يجعل إنفاقها بسهولة أمر طبيعي وهو ما قاد إلى شره استهلاك وهذا قاد إلى نسبة عالية ممن يعانون من السمنة/ البدانة بسبب الشره وعدم العمل، ما يقتضي ضرورة العلاج وأين؟ في الغرب الذي هو مصدر السلع التي يتم استهلاكها، وقد يذهب البعض إلى ممارسة الرياضة لتخفيف السمنة... الخ. وبالطبع، فإن السلع المستهلكة والعلاج وأدوات الرياضة جميعها مشتراة/ مستوردة من الغرب الراسمالي ما يزيد مكونات الحلقة الشيطانية من الاستهلاك والإنفاق وهدر الأموال إلى الخارج. هذا من دون أن نذكر استخدام الغرب للصناديق السيادية لهذه السلطات، وفوق كل هذا تحكم شركات الغبر الكبرى بالنفط. *كاتب فلسطيي
هوامش Marx & Engels, Basic Writings on Politics and Philosophy, Edited by Lewis S. Feuer, Anchor Books, 1989.p. 476 [2] قانون القيمة المعولمة، ترجمة سعد الطويل، منشورات المركز القومي للترجمة، القاهرة 2012ص 15 [3] انظر Kana’an – The e-Bulletin كنعان النشرة الإلكترونية, Volume XV – Issue 3781 23 March 2015 ، و 3782. [4] Karl Marx and Friedrich Engels, , On Oreintalism (New York: International Publishers, 1972,), pp. 124, 160,; Meloti, , Marx and the Third World, pp. 114-123; Davis, Nationalism and Socialism, pp. 53-56. John Bellamy Foster, Marx Internationalism, in Monthly Review, vol 52, number3 July/August 2000, p. 17.