في رائعة الإيرلندي صاموئيل بيكيت في «انتظار غودو» ثمة خيوط تنسجها كيفما شئت إن أردت ممارسة لعبة الوقت، فلا «غودو» يأتي ولا ظله يقترب. في النص لبيكيت حالة الانتظار هي ساعة الترقب الحذر تأخذ القارئ لكبت أنفاسه، وإن يشي العنوان بأنّ «غودو» سيبقى حبيس الانتظار.أما «غودو» الفلسطيني فقد ظهر أخيراً في واشنطن، واستقل حافلة إلى نيويورك وسيظهر في مجلس الأمن. هكذا ببساطة تخبرنا السلطة الفلسطينية أنها أحيت «غودو» ولن يظل أسير الخيال المسرحي. ليقفز «أوسلو» من جديد إنما ببراعة «المفاوض» الذي يصر على أن يعود من بوابات مهشمة.
أكثر من عقدين مرّا على اتفاق «أوسلو» (13/ 9/ 1993) والحصاد هواء أصفر، لم يقنع حتى قادة «التفاوض». فماذا تغيّر في الهجوم على مجلس الأمن للاعتراف بدولة فلسطينية؟! وكل مرة تحبط واشنطن تطلعات السلطة في رام الله.

أقرب المقربين للسلطة السيد بسام الصالحي، رئيس حزب الشعب الفلسطيني، انفجر في وجه رئيسها، واعتبر أنّ المشروع المقدم لمجلس الأمن للاعتراف بدولة فلسطينية لا يلبي طموحات الشعب الفلسطيني. وهو مشروع، استقر الرأي عليه، بعد قنابل دخانية لاعتماد المشروع الفرنسي. ولم يزل ضجيج الحوار يتلبد في سماء رام الله حول التعديلات التي ضُمنت للمشروع، وعددها 8، والتسريبات تقول إنها شكلية ولم تدخل قطعية التبني.

طواحين الهواء

لا الأزرق ولا الرمادي سينقذان المشروع «المتهالك» على حد قول قيادي فلسطيني في منظمة التحرير الفلسطينية. وإن أفصحت معظم الفصائل الفلسطينية عن مواقفها الرافضة لصيغة المشروع وتوقيته، وتبادل الأراضي وإسقاطه حق العودة، والقدس ولم يلحظ التجمعات الاستيطانية، وحدود الدولة، وإعلانه الموافقة على تفاوض لعامين. كل ذلك وستجد أن السلطة تعتبر «هجومها» باتجاه مجلس الأمن اختراقاً كبيراً وضغطاً سيقدمها كمنتصر على «أعداء السلام».
التقدم لمجلس الأمن عبر العضو العربي الوحيد «الموقت» (الأردن) لا يعني أنّ الأخيرة تتبنى المشروع، وإن دفعت به. فالاتصالات الإسرائيلية ــ الأردنية السرية التي كشفت عنها الصحف الصهيونية، تقول إن عمان نصحت السلطة بالتروي، لكن الأخيرة أصرت على موقفها. ويبدو أن «معركة» مجلس الأمن هي الورقة الأخيرة التي يهدد بها السيد أبو مازن وبيده «خيارات» كثيرة على حد قوله، سيفاجئ بها الحكومة الإسرائيلية إن عطلت واشنطن القرار. ولم تنتظر الحكومة الصهيونية في الرد في وتيرة ربما لم تتوقعها رام الله حيث دعا وزير الاستخبارات يوفال إلى خطوات كاسحة، إذا ما توجه أبو مازن إلى مجلس الأمن.
حين انتصرت فييتنام لم
تنتصر على طاولات التفاوض
في باريس


وقال شتاينتس: «متوقع على ما يبدو تصويت في الأمم المتحدة على قرار عدواني معاد وأحادي الجانب بشأن دولة فلسطينية، محظور علينا أن نمر عن ذلك مرور الكرام. وبرأيي، إذا ما اتخذ مثل هذا القرار في مجلس الأمن بالفعل، فسيتعيّن علينا أن ننظر بجدية في حل السلطة الفلسطينية».
طواحين الهواء تواصل دورتها في صورة تراجيدية لمشهد عبثي، بعد أن أسقطت السلطة خيارات كثيرة كانت بيدها، وآخرها استشهاد القيادي في فتح زياد أبو عين... ولم تكن انتفاضة عام 2000 محركة للمواجهة، ولا الحرب على غزة التي لم تجمع حكومة متصارعة برأسين، ولا التهويد في القدس والاجتياحات اليومية للضفة الغربية.
ورقة التنسيق الأمني التي تهدد بها رام الله، ردّ عليها نتنياهو وليبرمان ووزير الحرب موشي يعلون، وأخرهم شتاينس. فما لم تحصل عليه بالمفاوضات لن تحصل عليه في مجلس الأمن. وفي حملته الانتخابية يردد نتنياهو أن الأمن والأمن فقط هو بوابة العبور لأي اتفاق. وهي دعوة صريحة أن السلطة مكبلة باتفاقات أمنية هي محددات أي تفاوض. ولن تذعن الحكومة الصهيونية الجديدة المقبلة في آذار لخيارات الضغط الدولي والاعترافات البرلمانية بدولة فلسطينية، إلا بعد الاعتراف الفلسطيني الرسمي بيهودية الدولة وتقاسم القدس «الشرقية» بعد توسيع حدودها ولتكن عاصمة في «أبو ديس» وتبادل أراض في مشروع تهويد للجليل.
المعطيات الموجودة على الأرض كلها تحمل أسئلة المصير الفلسطيني؟ فالضفة الغربية والقدس مكبلتان بالاستيطان، وحرب التهويد في أرض فلسطين التاريخية تستعر، وغزة محاصرة بالمال السياسي العربي والدولي، و«الوفاق» الفلسطيني يلفظ أنفاسه ما قبل الأخيرة. فأي قفزة في الخلاء تلك إلى مجلس الأمن؟
مواجهة التوجه لمجلس الأمن بأسئلة صريحة تثير حساسية مفرطة لدى السلطة الفلسطينية، وهذا ما فجرته اعتراضات الفصائل الفلسطينية على المشروع ناهيك عن الشعب الفلسطيني الذي لم يُستشر تاريخياً بالقرارات المصيرية وغيرها.

أولى تلك الملاحظات

بعد أوسلو وتفريعاته ومملكة الاستيطان في الضفة والقدس ما الذي تبدل في المشهد الدولي والعربي المنشغل بقضاياه في عالم الانقسامات السياسية والتكتلات الدولية؟
لم تقدم السلطة الفلسطينية خلال أكثر من عقدين نماذج سياسية تخرجها من إسار التفاوض ومحدداته الدولية المنحازة للكيان الصهيوني.
انتهجت السلطة خياراً وحيداً هو التفاوض ولاحقت كل أشكال المقاومة في الضفة الغربية ولم تبق خياراً إلا المواجهة الشعبية التي تُقمع بالرصاص من قبل الاحتلال.
الولايات المتحدة الأميركية وفي أوج خلافاتها مع نتنياهو لن تمرر أي قرار لا يخدم مشروعها الكولونيالي في المنطقة.
العالم العربي ممثلاً بدول قطرية معظمه تحلل من قضية فلسطين التي اختارت قيادة منظمة التحرير شعار يا وحدنا، وهي من أسهم في انفكاك بعض الأنظمة عن فلسطين. ليغدو الصراع فلسطينياً ــ إسرائيلياً.
عوامل القوة بالوحدة الفلسطينية تبخرت بتوجه السلطة للتعاون والتنسيق الأمني وفق اتفاقية أوسلو ما وضع المقاومة في دائرة الملاحقة والاعتقال (جنين ومخيمها نموذجاً).
العدوان والحرب على غزة لم يفتحا النوافذ الموصدة مع فصائل المقاومة الفلسطينية جميعها وليس فصيلاً أو حركة بعينها، وحوارات القاهرة من 2005 وما قبل شاهد عيان.
لم يُأخذ رأي الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، ودائماً يشعر أنه في تداخل المواقف يزايد باسمه.

السلطة بلا أحصنة تُسرج

ليس هناك كعب أخيل، فالمقتل في السياسة اليومية التي أحجمت عن قراءة التحولات التي ألمّت بالقضية الفلسطينية وجعلتها ورقة كالحة في جامعة دول عربية تكالبت للتخلص من عبئها. كان ذلك في مؤتمر القمة في بيروت 2002، لتقفز على الطاولة مبادرة «السلام» العربية «أوسلو 2» مسقطة حق العودة لشعب اقتلع من أرضه واغتصبت أحلامه وأيامه الفلسطينية. وأولى نتائجها كان حصار الشهيد ياسر عرفات في رام الله وانفضاض قرار العرب الرسمي عنه.
حوصر الشهيد ياسر عرفات لأنه رفض الاملاءات الأميركية ــ الصهيونية، ودَعم خيار الكفاح المسلح بعد أن حاصره أوسلو الذي هشّم الجسد الفلسطيني. المرحلة التي تلت استشهاد ياسر عرفات لم يأخذ منها سوى التفاوض ومن ذات البوابة الأميركية.
لا أحصنة إذاً تَسرجُ عليها السلطة قرارات مواجهة في غياب برنامج سياسي ــ كفاحي يحدد أوليات الشعب الفلسطيني، ولم يطلب إلا ساحة للمواجهة يجترحها بصدور عارية. وأصبح مُدمراً ومتأمراً لـ«المشروع الوطني» كل من يحرض ويدعو إلى انتفاضة ثالثة. وهناك من لا يريد أن يقرأ أن الاحتلال يردد يومياً أن أي خطوة سياسية من جانب واحد للسلطة تعني الدمار لها ولمؤسساتها. وخطوة التوجه إلى مجلس الأمن هي الأكثر تفجراً، على حد تصريحات القادة الصهاينة. أميركا تؤكد ذلك، فلم كل هذا التشبث بمفاتيح المقاطعة؟ والاحتلال لن ينتظر قرارات فك التنسيق فجعبته مليئة بالبدائل.
حين انتصرت فييتنام لم تنتصر على طاولات التفاوض في باريس إنما انتصرت في الميدان، والسفير الأميركي متأرجح في الهواء ليحمي رأسه من رصاص الثوار.
مشروع القرار المقدم لمجلس الأمن خطوة في الفراغ ما لم يأخذ إرادة شعب فلسطين وحقوقه التاريخية في كل فلسطين، وهو لم يزل يقاوم من أكثر من مئة عام... ويردد جيل تلو الآخر: فلسطين كامل التراب الوطني.
* إعلامي وكاتب فلسطيني