في تاريخنا العربي الحديث، القائم في غالبيته على ما أراده لنا الغرب الاستعماري صيغةً ملائمة له ولتوزيع مناطق نفوذه، شواهد كثيرة على محاولات تصدّينا لهذه الإرادة الجهنّمية، من مقاومة تحت عنوان «العين تستطيع مقاومة المخرز».من هذه الشواهد الثورة السورية الكبرى (1925- 1927 ) والمقاومة التي تلَتْها فامتدّت لعشر سنوات أخرى (1927 - 1937)، تمثّلتْ برفض قائدها العام سلطان باشا الأطرش تسليم السلاح وتفضيل المنفى وشظف العيش، في صحراء وادي السرحان ثم في الكرك، مع مَنْ آمَنَ معه بالثورة ومبادئها المتمثّلة برفض التقسيم وبرفع شعار الدين لله والوطن للجميع.

من هذه الشواهد حرب التحرير الجزائرية البطلة؛ ثم جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، التي انطلقت ضد الاجتياح الإسرائيلي للبنان الحبيب في 16 أيلول 1982 بدعوة من الشهيد جورج حاوي، والتي أسست لهزيمة العدو الإسرائيلي في لبنان، وذلك بمتابعة المقاومة ونهجها من عدة قوى عربية شيوعية وبعثية وسورية قومية وإسلامية؛ تُوّجَ كل هذا بانسحاب العدو من جنوب لبنان في 25 أيار 2000 بفضل تضحيات المقاومة الإسلامية اللبنانية، بكافة فصائلها، وتلك التي قدّمها أهل الجنوب الصامدون، إضافة إلى دعم محور المقاومة لهم جميعاً.
إلا أننا، مع ذلك، لا بدّ أن نجد مع كل هذا الإشراق المقاوِم، قوى متخاذلة، تبحث بكل ما أوتيت من قوة وزعامة سياسية ورجعية عربية إلى تنفيذ إرادة الغرب، فتتمسّك بالنظام الطائفي والمحاصصة الطائفية والإثنية في الحُكم، بدعوى أن الديمقراطية المزعومة ستتحقق بأبهى صورها ضمن هذا التمثيل الطائفي والإثني المقيت.
الخلط بين الديمقراطية والفدرالية يفتح الباب واسعاً أمام تحقيق المطامع


بينما العكس هو الصحيح، خاصة بعد ما شهدناه ونشهده من استعصاء وشلل في مفاصل الدولة المبنيّة على أسس النظام الطائفي؛ ولنا في لبنان نموذج صارخ على ذلك. إنّ ممارسة السلطة الوطنية لمهامها في إطار البلد الواحد، غير المفتّت حصصاً على أبنائه، هي الممارسة الديمقراطية لأنها تتم باسم الوطن. أمّا أن تكون ممارسة السلطة بتمثيل فئة طائفية أو مذهبية أو إثنية، فذلك لا يمتّ للديمقراطية بِصِلة. فالوطن بكلّ أهله وبوحدة ترابه هو الفضاء الرحب للممارسة الديمقراطية الصحيحة، ولنا في الغرب، ذي المكوّنات المتباينة، مثال واضح على ذلك. فكلّ غاية لا تتجاوز المطامع الذاتية والفئوية لا يمكن لها الانسجام مع الهدف الديمقراطي المنشود.
إنّ الخلط بين الديمقراطية والفدرالية يفتح الباب واسعاً أمام تحقيق مطامع محلية متصلة بمصالح فئة ما طاغية على مصالح فئة أخرى. وحتى تكون الفدرالية بريئة لا ريب فيها، عليها استهداف حسن أداء الإدارة في تطبيق القوانين الوطنية التي تخدم عموم الشعب بشكل عادل ومتساوٍ، بقطع النظر عن الفئوية المذهبية والطائفية والإثنية.
اليوم، قد نكون على عتبة التماع بصيص يدلّنا على مخرج للنفق التي دخلتْ سوريا والمنطقة بكاملها فيه، بعد بدء الحديث عن إمكانية لقاء السوريين في موسكو للحوار، تمهيداً للقائهم المُرتجى في دمشق لاستكمال هذا الحوار، الذي طالما دعونا إليه وكنّا معه منذ بداية المحنة السورية، ولمّا نزلْ كذلك في كافة الظروف، فهو الدليل الأكيد على التوجّه للتعدّدية الديمقراطية، الذي نتوخّاه جميعاً.
شخصياً، آمُل من المتحاورين السوريين، في قادم الأيام، نبذ كل أشكال الطائفية والمذهبية والإثنية والفئوية، من أجل السعي إلى الاتفاق على عقد اجتماعي جديد، يهدف إلى تحقيق دستور جديد للبلاد، قائم على المواطنة الحقيقية، المتمثِّلة بالمساواة الكاملة أمام القانون، (وهنا أقصد القانون بكل تفرّعاته السياسية والاقتصادية والمدنية والأحوال الشخصية... إلى آخره)، كي نكون بحق «عيناً تقاوم المخرز» كما هو ديدن أجدادنا الذين أفشلوا خطط التفتيت الغربية لبلادنا؛ لا أن يتمّ السعي إلى المحاصصة على أسس طائفية وإثنية تقود البلاد إلى التفتيت والشرذمة، فتذهب دماء الناس ودماء أجدادنا قي مقاومتهم، هدراً.