كلّ النقاش الذي أُثير في أعقاب الجريمة ضدّ الأسبوعية الفرنسية الساخرة تركّز على موقف العرب والمسلمين منها، مغفلاً حقيقة بسيطة تقول إننا لسنا الوحيدين المعنيين بما جرى. إذ ثمّة آخرون على هذا الكوكب يشعرون بالألم لما حصل، ولكنهم لا يفهمون لماذا يتعيّن عليهم أن يتضامنوا مع بيئات لا تشعر بمعاناتهم ولا تفهم «قضيتهم» إلا في سياق معيّن هو سياق العلاقة بينها وبين المركز الغربي.

وهو بالضبط ما يشعر به جزءٌ كبير من العرب والمسلمين تجاه جريمة شارلي ايبدو التي لم يرتكبوها ولم يتعاطفوا أصلاً مع فاعليها. هم ليسوا كتلة واحدة أساساً حتى يجري التعامل معهم على أساس المسؤولية المعنوية عن الجريمة، فبعضهم يؤيّد «داعش» بالفعل، وبعضهم الآخر يحتقرها ويجرّم أفعالها، وبين هذين الحدّين يوجد طيف واسع لا يبدو أنه معنيّ بكلّ ما يحصل. وهؤلاء هم الأكثر تضرّراً من السياسات التي يهيّئ الغرب مجتمعه لاحتضانها. فما يجري الآن ليس مجرّد ردود أفعال على جرائم يرتكبها أفراد باسم هويّة أو ديانة معينة، بل هو انعطافة واضحة في طريقة التعامل مع المهاجرين الذين استقرّوا في الغرب منذ زمن وباتوا بشكل أو بآخر جزءاً من تركيبته الاجتماعية. في السابق، كانت تكتفي الدولة الغربية التي تحتضنهم بإظهار الولاء لها واحترام تقاليدها الاجتماعية حتى تعاملهم كمواطنين متساوين من حيث الحقوق والواجبات مع «أبنائها الأصليين». أما اليوم، وفي ضوء التطوّر الذي فرضته الجريمة الجديدة، أصبحوا مطالبين ليس فقط بمساءلة هويّتهم الأمّ، بل أيضاً بالإذعان «للتقاليد الجمهورية» التي ستأخذ من الآن وصاعداً منحىً آخر لا علاقة له على الأغلب بتراث الجمهورية نفسه.

تضامن أم موقف من الهويّات الأخرى

ظهر ذلك جليّاً من خلال «الضغط» الذي تعرّضت له الجالية العربية والمسلمة لإبداء تضامنها مع ضحايا شارلي ايبدو. وهو- أي التضامن - وإن بدا مطلوباً لأسباب إنسانية تتعدّى الموقف السياسي، إلا أنّ تأكيده بهذه الحدّة والتهافت الذي صاحبه على الإعلام الناطق بالفرنسية حوّله من محطة فعلية للتعاطف مع الضحايا إلى موقف من «الهويّات» الأخرى التي لا تشاطر الغرب رؤيته إلى الحياة والعالم. بهذا المعنى، أصبح الموقف من الجريمة مرتبطاً بالهويّة نفسها، وهي ليست بالطبع هوية الأكثرية، إذ لا يمكن فرنسيّاً تجري في عروقه دماءٌ فرنسية أن يقتل فرنسياً مثله.
«الأسلمة» التي تمثّلها حركات
فاشيّة مثل «داعش» و«النصرة» تُعَدّ بمثابة أداة للوهابية السياسية القائمة في السعودية وقطر والخليج

وهو ما يضع الأقلّية المهاجرة، سواءٌ أكانت مسلمة أم مسيحية (المعاناة ستطاول على الأغلب كلّ العرب المقيمين هناك، وإن بتفاوت بين فئة وأخرى) في موقف التبرير الدائم ويجعلها عرضةً لمساءلة يومية لا تنتهي عن إخلاصها للبلد الذي تعمل فيه، وما إذا كانت تشعر بما يشعر به الفرنسيون أو لا. المشكلة أيضاً أن هذا التمييز لن يقتصر على السلطة وحدها، لا بل ستكون هذه الأخيرة الأكثر حساسيّة تجاه إظهاره، في حين أنّ المجتمع سيصبح هو المكان الأكثر قبولاً له، وخصوصاً أن الفرنسيين لم يعودوا كما في السابق يُبدون ممانعةً كبيرة لخطاب اليمين المتطرّف تجاه المهاجرين. «التضامن» في مثل هذه الحالات يصبح مهزلة، ويتحوّل بفعل التعبئة الحاصلة في الإعلام إلى أداة بيد السلطة التي يعود لها وحدها تحديد طبيعة الجريمة ونمط التعامل معها، وهو ما يجعل النقاش نفسه مستحيلاً.

الهامش المسموح به للإعلام

الإعلام نفسه تغيّر في ضوء ما حدث، إذ بدأنا نسمع كلاماً عن «رقابة» تخضع لها المناقشات حول الجريمة وهويّة فاعليها، وإن لم تكن قد وصلت بعد إلى الصحف الرئيسية التي لا تزال تفرد مساحات لا بأس بها لتناول الجريمة بمختلف أبعادها (الإعلام المرئي هو الذي تجنّد أكثر من غيره لمحاباة السلطة تحت مسمّى الإجماع). لكن المشكلة الفعليّة التي بتنا نواجهها اليوم، حتى مع هذه الصحف نفسها، هي اختزال المسألة بموضوع الهويّة، إلى درجة لم يعد ممكناً معها توسيع النقاش ليشمل مساحات أخرى غير العلاقة بين الغرب ومسلميه. ومع أنّ الإعلام هناك (وخصوصاً اليساري) يعرف أنّ المشكلة ليست في هويّة المجرمين كما يشاع، إلا أنه يتحاشى حالياً مجابهة «الإجماع» الذي كوّنته السلطة حول خطابها، ويفضل بدلاً من ذلك الحديث الفضفاض عن «قيم الجمهورية» التي تجمع الفرنسيين من مختلف الأصول والأعراق والديانات ولا تستثني منهم أحداً.
الأرجح أنّ هذا «الإجماع» سيستمرّ كحالة إعلامية فقط، فهو لا يقدّم في الحقيقة شيئاً للبيئات المستهدفة بالإجراءات الأمنية الجديدة، ولا يُعنى بتقديم طمأنات إليها عن المستقبل الذي سيلي «شدّ أحزمة الجمهورية». في أفضل الأحوال سيَسمَح بهامش للمعترضين على الإجراءات الأمنية ضدّ المهاجرين وأبناء الأقلّيات المسلمة، ولكن في ظلّ تقدم «الحالة الاجتماعية» المطالبة بالتضييق عليهم يصبح الهامش نفسه معزولاً وخاضعاً لتأثير «الأكثرية» التي ستطالب بإقصاء من يعترض على خطاب الإجماع السلطوي. في هذه الحالة سيكون الإعلام الفرنسي القريب من اليسار (إعلام اليمين أصبح منذ الآن بوقاً للإجماع) أمام اختبار حقيقي، فإمّا أن يقبل بضغوط «السلطة والمجتمع»، وعندها يفقد بالفعل الهامش الذي كان يميّزه عن سواه ويتيح له استقلالية نسبية عن سلطة رأس المال، أو أن يحافظ على «هويّته التعددية»، ويسمح لأبناء الأقليات المسلمة والمدافعين عنهم ليس فقط بعرض وجهة نظرهم، بل أيضاً باتخاذه منبراً للهجوم على الحملة التي تستهدفهم. إذا قام بذلك والأرجح أنه لن يفعل، فسيصبح للحيّز الذي يحافظ عليه حالياً معنى حقيقي، ولن يكون فقط مجرّد إضافة هامشية إلى المشهد الفرنسي الذي يزداد يمينيةً وقباحة يوماً بعد آخر.

تأثير اليمين الفاشي

حتى الآن لا يزال الاتجاه صوب أقصى اليمين محصوراً بفئة معيّنة من الفرنسيين، وهؤلاء بالتحديد هم الذين سيضغطون على السلطة لاتخاذ مزيد من الإجراءات ضدّ المهاجرين، بينما الفئات الأخرى القريبة من اليسار لا تحبّذ هذه التوجّهات وتضغط باتجاه الإبقاء على «التعدّدية الثقافية» التي تميّز المجتمع الفرنسي. والحال أنّ هذه الشرائح هي التي بدت معنيّة أكثر من سواها بطمأنة الأقلّية المسلمة في الأيام التي أعقبت جريمة شارلي ايبدو، وترجم ذلك عمليّاً عبر كتابات وتحرّكات على الأرض لم يرُقها احتكار السلطة وأحزاب اليمين ويسار الوسط لخطاب الإجماع. غير أنها بحكم التغيّرات التي أعقبت الجريمة لن تعود مؤثّرة كما كانت، وسيقتصر «نفوذها» على دوائر معيّنة، وهذه الدوائر ستفقد مع الوقت قدرتها على الضغط على الأحزاب المهيمنة التي يتزايد نفوذ اليمين فيها تدريجياً. صحيح أنّ مارين لوبين قد اسُتبعدت من «مسيرة الجمهورية» يوم الأحد قبل الماضي، لكن خطابها كان حاضراً بقوّة في المجتمع الفرنسي، وبدا حزبها أقرب إلى «مشاعر الفرنسيين» المفجوعين بقتلاهم من باقي الأحزاب التي شاركت في المسيرة، ومعظمها إن لم يكن كلّها مشاركة في الحكم، إمّا عبر الرئاسة والحكومة أو عبر البرلمان بغرفتيه. هذا الحضور سيصبح أكبر مع الوقت وسيدفع شرائح واسعة من الفرنسيين إلى تبنّي ما تقوله لوبين بخصوص الأقلّية المسلمة، ولها على هذا الصعيد تصريحات استفزازية كثيرة، أهمّها تشبيهها صلاة المسلمين الفرنسيين في الشوارع المحيطة بالمساجد بالاحتلال. في السابق، كانت هذه التوصيفات تُعَدّ هامشيّة بالفعل، لا بل كان الفرنسيون العاديون غير المتحزّبين أوّل من يتصدّى لها على اعتبار أنها تمسّ بقيم الجمهورية التي تشجّع على «التسامح» واحترام التعدّدية الثقافية (دستور الجمهورية الفرنسية يتبنّى الحياد تجاه الأديان المختلفة ويترك للفرنسيين حرية الاعتقاد أو الإلحاد)، لكن منذ فترة بدأ هذا المزاج الشعبي الواسع بالتغيّر، ولم يعد يقبل بسهولة بمظاهر التديّن المعبّرة عن المسلمين. هو لا يعتبرها كذلك بالمناسبة، ويظنّ أن توسّعها مرتبط بتوجّه سياسي لتغيير هويّة فرنسا العلمانية، وهذا الرأي لا يعبّر عن جناح سياسي واحد في الحقيقة، غير أنّ فظاظة اليمين المتطرف واتساقه مع ذاته هي التي تسمح له بأن ينقل هذه الحقيقة إلى الرأي العام الفرنسي والأوروبي أكثر من غيره. بهذا المعنى يصبح بالفعل «الأكثر تمثيلاً» (من الناحية الرمزية طبعاً) على الصعيد الأوروبي، والأبرز على صعيد التعبير عن هواجس المجتمع الغربي وتحوّلاته.

«الإسلام الأوروبي» بوصفه هويّة

والحال أنه - أي اليمين المتطرّف - استفاد كثيراً من النقاش الدائر بخصوص «الأسلمة»، ونقله من ضفّة إلى أخرى. بفضله تقريباً أصبح هذا النقاش أهمّ من أيّ جدل يتعلّق بالاقتصاد أو بالسياسات العامة للدولة، وعلى أساسه بات ممكناً سنّ قوانين بأكملها كما حصل في عام 2009 حين أصدر البرلمان بغرفتيه تشريعاً يمنع على النساء المسلمات ارتداء النقاب في الأماكن العامة. هذا النفوذ الذي اكتسبه اليمين المتطرّف كان له تأثير واضح على السياسات العامّة للدولة، وليس على المجتمع فحسب. فالنقاش حول «الأسلمة» لم يعد «عفويّاً» أو محصوراً ببيئات وشرائح معيّنة من الفرنسيين، وأخذ يعبّر بوضوح عن توجّه سياسي مناهض للعرب والمسلمين الفرنسيين بزعم أنهم يريدون «أسلمة» فرنسا. ومع أنّ «الأسلمة» التي تمثّلها حركات فاشيّة مثل «داعش» و«النصرة» تُعَدّ بمثابة أداة للوهابية السياسية القائمة في السعودية وقطر والخليج، تستخدمها في سياق تحطيم المجتمعات الرافضة لسياساتها، إلا أنها على المستوى الأوروبي تنتمي إلى سياق آخر.
في أوروبا أصبح الإسلام بمثابة هويّة للأفراد الذين تركوا بلدانهم ولم يستطيعوا الاندماج كما يجب في الدول التي هاجروا إليها، وهذه حقيقة يعرفها الجميع، وتعبّر عنها التجمّعات الموجودة في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا و... إلخ. من هذه التجمّعات خرجت الاحتجاجات العارمة ضدّ الشرطة في فرنسا في عام 2005، ومنها أيضاً استهدفت الشرطة الألمانية مراراً، وهي ظواهر لا يمكن اختزالها بفكرة الهويّة فقط، رغم أنها تعبّر بالفعل عن هويّة سياسية ناقمة على عنف الدولة ضدّ المهاجرين وعدم استيعابها لهم كما يجب. هكذا، لا يعود إسلام هؤلاء مجرّد «أسلمة للمجتمع»، ويصبح مع الوقت تعبيراً عن الغضب الذي يدفع بالمهمّشين، أيّ مهمّشين، إلى استهداف الدولة الغربية ومؤسّساتها، وهو بالتأكيد ليس «كإسلام داعش» و«النصرة» الموجّه ضدّ المجتمعات والفقراء حصراً. وإذا كان بعضهم قد اعتنقه فلأنّ المجتمع ذاته لم يعد يحتمل الهويّات الأخرى، وبات يدفع بأفرادها دفعاً إلى أحضان «داعش» ومثيلاتها من التنظيمات الفاشية التي تنفّذ المشروع الوهابي في منطقتنا والعالم.
هذا لا ينفي عن الأخوين كواشي تهمة الإجرام تماماً، كذلك لا يسمح باعتبار رسومات شارلي ايبدو مجرّد سخرية من التديّن ورموزه. الأمر أعقد من ذلك بكثير، ولا يمكن تناوله بالخفّة التي تحصل الآن. هو في أفضل الأحوال «معضلة ثقافية»، وفي أسوئها «عارض جانبي» لسياسات رأس المال الدولي.
* كاتب سوري