من يتابع الاعلام الفرنسي هذه الأيام فإنه ينتابه شعور احياناً بأنه أمام إعلام «وطني» يقترب بعض الشيء من وسائل الإعلام في كثير من الدول العربية، بعد أزمة كبرى او مجزرة لها أبعاد طائفية، مع اختلاف في شكل ومستوى الأداء. لم يكن لأحد ان يتصور مثلاً أن تقصد محطات التلفزة والإذاعات، في بلد يتباهى بعلمانيته كفرنسا، إبراز خلفية ضيوفها الطائفية وأن يبدي مقدمو الأخبار دهشتهم عمدا وهم يذكرون الضيف بانه مسلم ويقول: «انا شارلي»، او أنه مسلم ومتزوج فرنسية (مسيحية) او يهودي ولا يريد مغادرة فرنسا الى اسرائيل، كآلاف الفرنسيين اليهود الذين قرروا الانتقال الى اسرائيل حتى قبل دعوة نتنياهو لهم.
بدا الإعلام، وكأنه يبحث عن رموز تساعده على ترويج صورة المجتمع المتعاضد. وهكذا أصبح الشاب «المسلم» الذي اخفى عددا من الرهائن في المتجر اليهودي الذي اقتحمه امادي كوليبالي ـ وعن حق ـ بطلاً ورمزاً للتأكيد أن المسلمين لا علاقة لهم بالارهابيين، وكرمته الدولة بمنحه الجنسية الفرنسية.
في المرحلة الأولى بدت وسائل الإعلام الفرنسية ولاسيما القنوات الاخبارية في حالة ذهول غير مسبوقة، أمام هول ما حدث في قلب العاصمة. وقعت هفوات كادت تهدد حياة أشخاص، خلال مرحلة الملاحقة واحتجاز الرهائن. فاحدى القنوات اوردت خبراً عن وجود رهائن في غرفة التبريد في المتجر اليهودي. معلومة لو وصلت لمحتجز الرهائن كوليبالي لكادت ترشده إلى مكان اختباء الرهائن. وأيضا القناة الفرنسية الثانية، وخلال تغطيتها الحية تلقت اتصالاً من شقيقة الرهينة في ورشة الطباعة حيث تحصن الاخوان كواشي، ولمحت إلى احتمال ان يكون مختبئاً. وتبين فيما بعد ان الشاب اختبأ لمدة ثماني ساعات تحت حوض المغسلة بعيدا عن أعين الأخوين. تساؤلات عدة طرحت عن كيفية التوفيق بين سرعة الاعلام والمسؤولية، وعن كيفية تغطية حدث من هذا النوع. فهل كان يجب مثلا الإشارة إلى قرب عملية الاقتحام، أو عرض صور استعدادات قوى التدخل السريع كما فعلت احدى القنوات. تساؤلات استدعت اجتماعا لـ»المجلس الأعلى للإعلام المسموع والمرئي» بحضور مدراء وسائل الإعلام، جرت فيه مناقشة هذه التغطية وكيفية تلافي الأخطاء التي قد تهدد حياة أشخاص أحياناً، ويفترض أن يعرض المجلس خلاصاته في وقت لاحق. منذ وقوع الهجوم، وخلال المطاردة التي انتهت بمقتل «الإرهابيين الثلاثة»، لم يكن في الإعلام سوى «التأثر» وتأجيج المشاعر. وهو ما انتقده الفيلسوف ميشال وينفري الذي رأى أن التأثر أمر طبيعي ومفهوم عندما يقع «هجوم- كارثة» ضد صحافيين وسط باريس بهذا الشكل، لكن المشكلة أنه لم يكن في الإعلام سوى هذا، ولم تطرح جذور المشكلة والأبعاد الجيوسياسية والسياسية ومحاولة فهم ما حدث ولماذا وصلنا إلى هنا؟». بدأت مرحلة جديدة في وسائل الإعلام بعد مقتل المهاجمين عنوانها «الوحدة الوطنية»، والحفاظ على السلم الأهلي. فمفردات الاعلام الفرنسي بدت وكأنها ترجمة لمفردات شاشات عربية عن التعايش والاحترام المتبادل و»واحد واحد واحد الشعب الفرنسي واحد، وكلنا إيد وحدة». وباتت لافتات «الصليب والهلال ونجمة داوود» في أي تجمع أو تظاهرة، تمثل لقطة مغرية للإعلام ومشهد الإمام والحاخام والقسيس يدا بيد من الصور المحببة، لا بل المطلوبة سواء في الإعلام المحسوب على القطاع العام أو الخاص. فالقضية وطنية والإعلام كله «وطني»، كما يكرر وزراء الاعلام في معظم الدول العربية. والحديث عن قوى الأمن والجيش الفرنسيين يستدعى كثيرا من الوقار، والاحترام فهما «العين الساهرة» على أمن المواطنين. خطاب التهدئة الإعلامي يتسق ويعبر عن خطاب يكرره سياسيو البلاد منذ الساعات الاولى لاعتداء شارلي ايبدو. خطاب «الوحدة الوطنية» و»المسايرة». لم يمر يوم واحد منذ الاعتداء دون ان يذكر فيه فرانسوا هولاند أو رئيس وزرائه مانويل فالس ان فرنسا تحارب الارهاب والتشدد الإسلامي لا الاسلام. واستغل هولاند فرصة عقد ندوة في «معهد العالم العربي» ليعتلي منبرها ويقول: إن «الاسلام منسجم مع الديمقراطية»، وإن «المسلمين هم أولى ضحايا التشدد الإسلامي»، وذهب رئيس وزرائه ابعد بالحديث عن «نقاش داخل الإسلام»، واجتهد وزير الخارجية فابيوس بالقول إن الجهاد ليس من الاسلام. ووجدت وسائل الإعلام الفرنسي نفسها فجأة في قلب المعركة «الجهادية»، و»الفقهية» أيضاً. فما كانت تعيره شيئا قليلا من الاهتمام سابقاً، بات يمثل عناوينها الأساسية. خلال ثلاث سنوات على الأقل، كانت تتناول مسألة المقاتلين الفرنسيين والأوروبيين في الخارج كتهديد محتمل، وبعيد عن الأراضي الفرنسية طالما أن الضحايا من غير الفرنسيين أو على الأقل ليسوا على الأرض الفرنسية. فحتى عندما شاهد الفرنسيون صور أبناء «الجمهورية»، ومن أصول فرنسية وليسو من أصول مهاجرة، يقطعون رؤوس جنود سوريين ومواطن أميركي أو يسحلون ضحاياهم في الشمال السوري لم يعط الحدث سوى مساحة محدودة في وسائل الإعلام ولم يحول إلى قضية «وطنية». وعندما فجر أحد الفرنسيين، ويدعى نيكولا نفسه قرب حمص عام 2013، لم يطرح السؤال حتى عما يفعله أبناؤنا في الخارج من قتل للمدنيين. لم يطرح سوى خطر عودتهم الى فرنسا مدربين لا خروجهم للجهاد في الخارج. وبدأت تطرح الاجراءات القانونية الواجب اتحاذها لمنع عودتهم، كمحاكمتهم عند دخولهم الاراضي الفرنسية او سحب الجنسية الفرنسية منهم. السياسة كانت هكذا، والإعلام لم يتقدم عن السياسة. أما اليوم فتنشر صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» استطلاعا يظهر ان 68% من الفرنسيين يؤيدون منع مغادرة المقاتلين ومنع عودة من غادروا منهم». و81% يؤيدون سحب الجنسية منهم. ما بدا أنه إجماع داخلي وتعاطف دولي مع مصيبة باريس لم يدم. وفي أول اختبار بدأت الأسئلة الصعبة تفرض نفسها على الحكومة وعلى الإعلام. التحدي الأبرز جاء من بعض «مدارس الجمهورية» التي رفض تلامذتها الوقوف دقيقة صمت حداد على أرواح الضحايا. وتصاعدت المشكلة داخل بعض المدارس مع نشر «شارلي ايبدو» رسوما جديدة للنبي. انذرت تصرفات بعض التلاميذ بمشكلة حقيقية في مدارس الجمهورية التي جعلها جول فيري عام 1882 «علمانية والزامية». بات على وزارة التعليم طرح اصلاحات جديدة لتلافي النواقص في التعليم من خلال اجراءات ابرزها تعميم كتيب على التلاميذ يشرح ما هي العلمانية. أما التعاطف الدولي الذي تجلى في مسيرة باريس، فسرعان ما تهشم، وتصاعدت حملة «انا لست شارلي». وتصاعدت ايضا الاعمال المعادية للمسلمين لتصل إلى اكثر من 116 عملا خلال عشرة ايام، التي تعاطى معها الاعلام بالحد الأدنى. ومرة جديدة وجد الإعلام الفرنسي نفسه أمام معركة من نوع جديد. عليه ان يتجنب صب الزيت على نار الاحتجاجات المتصاعدة ضد شارلي وضد فرنسا، ولاسيما في دول محسوبة على فرنسا كالنيجر. لجأت بعض وسائل الإعلام إلى استضافة أئمة ومختصين في الفكر الإسلامي ليشرحوا «الدين الصحيح». هل بالفعل يحظر تصوير النبي (ص)، أم أنها تفسيرات لا إجماع عليها؟ وما حدود حرية التعبير. أسئلة أساسية باتت مطروحة اليوم. وستطرح أكثر بعد حديث رئيس الوزراء عن «ابارتهايد مناطقي واتني» في فرنسا.

الاعلام تجنب الأسئلة المحرجة لفترة طويلة

خلال الفترة السابقة لهذا الهجوم بقيت وسائل الإعلام خجولة بطرح الأسئلة الأساسية والمزعجة، بما فيها تلك المتعلقة بالسياسة الخارجية الفرنسية، ولاسيما في ليبيا وسوريا والعلاقات مع دول الخليج. لم تكن هناك مساءلة اعلامية لقرارات الحكومة في الخارج باستثناء بعض الاصوات على مواقع الكترونية او في صحف مكتوبة. الجمهور سبق الإعلام احيانا فرفع مشجعو نادي «باريس سان جرمان» الشهير لافتة، خلال مباراة لكرة القدم، كتب عليها «قطر تمول باريس سان جرمان والارهاب»، كما خطا بعض السياسيين خطوة لجهة الدعوة لاعادة النظر بالعلاقة مع قطر المتهمة بتمويل الارهاب، منهم احد قادة حزب «التجمع من اجل حركة شعبية» اليميني برونو لوميير. فتناولت بعض القنوات الدور القطري في دعم مجموعات اسلامية متشددة. برغم أن رئيس الوزراء مانويل فالس، كان أجرأ عندما كان وزيرا للداخلية، أو ربما زل لسانه وهو يشرح أسباب ارتفاع عدد المقاتلين الفرنسيين في سوريا، فقال لإذاعة أوروبا1 في يناير 2014: «لأنه بالإمكان الذهاب إلى سوريا بسهولة، والمعركة تبدو عادلة لأن القوى الكبرى تدين تصرفات بشار الأسد، وهناك أزمة لدى قسم من الشباب لدينا». موقف لم يتكرر، ليبقى كل شيء «لائقا سياسيا».
ترك الإعلام الفرنسي خلال الفترة الماضية مجالا لأجهزة الأمن للتعاطي بعقل بارد مع الظاهرة. كانت السلطات تشعر بأن الوقت متاح أمامها بعيدا عن الضغط الإعلامي لتناقش مشاريع قوانين تتعلق بالإرهاب، وتفكر ملياً بالإجراءات الواجب اتخاذها. فجأة تغير كل شيء وفرض الهجوم الباريسي خطوات واجراءات عاجلة، لا تخلو من تجاوزات لمبادئ أساسية منها حرية التعبير. فخلال اسبوع واحد جرى توقيف 69 شخصا بتهمة «تمجيد الإرهاب»، وليس فقط الممثل الساخر ديودونيه، الذي كتب: «اشعر بأنني شارلي كوليبالي». اجراء ينذر بتجاوزات قضائية ويمثل «خطرا على حرية التعبير»، من وجهة نظر «منظمة العفو الدولية»، التي رأت أن «تمجيد الإرهاب يعتمد تعريفا فضفاضا، وأن حرية التعبير يجب ألا تكون وقفاً على البعض، وان الوقت ليس لاجراءات تعتمد ردود الفعل والتأثر، بل اجراءات تأتي بعد تفكير بوسائل تحمي الحياة وتحترم حقوق الجميع». تحت عنوان الأمن، قرر عمدة مدينة فيلييه سور مارن تأجيل عرض فيلم «تومبوكتو» للمخرج الموريتاني عبد الرحمن سياساكو في احدى القاعات التابعة للبلدية، خوفاً من ردود فعل على فيلم يتناول مدينة تومبوكتو التي سقطت بيد الجهاديين. وجرى أيضا وقف عرض فيلم « l›apôtre المبشر» للمخرجة شيين كارون الذي يروي قصة اعتناق فتاة مسلمة المسيحية، من قاعتي عرض في فرنسا. بإمكاننا تصور ردود الأفعال على قرارات من هذا النوع في ظروف مختلفة. الإعلام مر مرور الكرام عليها، كما لم يعط اهتماما كبيرا لقرار شرطة باريس منع تظاهرة مناهضة لأسلمة أوروبا، مستوحاة من حركة «بيغيدا» الألمانية. حركة توسعت لتضم عشرات الالاف من الألمان اسبوعيا، ووجدت المستشارة الألمانية نفسها مضطرة إلى التظاهر مع الجمعيات الأسلامية الألمانية ضدها، حرصا ربما على «السلم الأهلي»، لكن بالنتيجة وبعيدا عن المسايرة وبحداقتها المعهودة توجهت ميركل إلى المسلمين بالقول: «إن الإسلام جزء من ألمانيا، ولكن من الضروري الاجابة عن سؤال بشأن السبب وراء استخدام القتلة الدين الاسلامي في تبرير جرائمهم، وعلى علماء الإسلام ان يجيبوا عن هذا السؤال». تصريح، يضع ممثلي المسلمين، وخاصة في المانيا أمام مسؤولياتهم. لعله توجه سيتعزز أكثر في الدول الأوروبية.

* اسم مستعار لاعلامي عربي في باريس