حين كان أستاذ السياسة المقارنة، الراحل أندرو يانوش، يشرح لطلّابه معضلة "التنمية والتصنيع" وكيفية "لحاق" الدول المتخلّفة بأخرى سبقتها تنموياً وتكنولوجياً (وهو السؤال المحوري بالنسبة الى أبناء جيله ممن اشتغلوا في مجال الاقتصاد السياسي)، كان يردّد دوماً نظريته القائلة بأنّ احدى المشاكل التي تعانيها الدّول التي وجدت نفسها متخلّفة، لأسباب تاريخية أو غيرها، هي أن "فكرة" الثورة الصناعية ــــ ومثالها ومقاييسها وأساليب الحياة التي أفرزتها ــــ قد انتشرت بشكلٍ أسرع بكثير من انتشارها المادّي ورسوخ تقنياتها ونظم انتاجها وفعاليتها في أماكن أخرى. بهذا المعنى، يتوقّع المواطن في هذه الدّول الفقيرة، وهو في طور المرحلة البدائية من "التراكم الرأسمالي"، مستوى معيشةٍ يشابه ذاك الذي تحوزه بلدانٌ سبقته في مجال التنمية والإستعمار ونهب الكوكب بمئة سنة، ويقارن نفسه بأهلها، ويستهلك ثقافتها ويطلب بضائعها (هذا ما يسمّى باللغة الأكاديمية demonstration effect).
كمثالٍ على هذه الفكرة، كان يانوش يقتبس فلّاحاً هنغارياً التقاه في الثمانينيات، وكان يشتكي من الفروقات في المعيشة والرفاه بينه وبين النمساويين والألمان الذين يأتونهم سياحاً عبر الحدود. بعد أن حدّثه الأكاديمي عن فكرة التنمية والتخلّف، وأنّ حقبة انتاجٍ وتقتيرٍ وتراكم هي ضرورية لـ "حرق المراحل" واللحاق بمجتمعات اوروبا الغربية ومستوى حياتها، كان التعليق الوحيد الذي تلقّاه هو: "واين سيارتي المارسيدس، اذاً؟" ــــ هو يرى سيارة المرسيدس لدى نظيره الألماني ويرغبها، ولا يهمّه التاريخ الذي يفسّر ظهور هذا النوع من الاستهلاك.
الّا أنّ استنساخ "الفكرة" بمعزلٍ عن وظيفتها وفعاليتها والحاجة اليها قد تكون ضربت مجتمعاتنا على مستوىً أعمق وأشدّ خطورة، خاصّة في ما يتعلّق بصناعة النخب والطبقة الوسطى والتكنوقراط "الحداثي" فيها. يتكلّم تيموثي ميتشل عن موضوعٍ مشابه، حين يصف عملية انتقال الحداثة الى دول الجنوب كبنى نظريّة، تتبع مثالاً "قياسياً" غربياً (العالم مقسّم على شكل دولٍ، واقتصادات وطنية توازي حدودها السياسية، ولها نشيد وطني وجيش ورئاسة وبرلمان، الخ) وتستنسخه في عالم الواقع على شكل مؤسسات وقوانين وأنظمة تبدو، من الخارج، مشابهة تماماً لنظيراتها الغربية. الّا أنّ تاريخها الحقيقي، الذي يجري خلف هذه الواجهة والأسماء والعناوين، لا علاقة له على الإطلاق بما افترضه "مهندس" هذه البنى.
في بلادنا، "الدّولة الوطنية" هي أمّ النخبة وطبقتها الحداثية، وقد تمّ بناء هذه "الدولة الوطنية" (التي لم تتحوّل، بأي مقياس، الى بلدٍ "حقيقي" وقد لا تملك مقوّماته أصلاً) على المثال الذي وصّفه ميتشل: ان كان في اميركا مصرف مركزي صار في لبنان مصرفٌ مركزي، وان كان في اميركا جامعات ومراكز وطنية للأبحاث ففي لبنان مثلها، وان كان في اميركا إعلام وتلفزيون ومثقفون ففي لبنان ايضاً الخ… وحول هذه المؤسسات نشأت نخبٌ وطنية تديرها وتشغل مناصبها وتنال امتيازاتها الطبقية (ورواتبها واحتكاراتها) من دورٍ مفترض تؤديه، هو مرآةٌ للدور الذي تلعبه الطبقة الوسطى\ العليا، والبيروقراطيين والخبراء، في دول المركز الغربيّ.
الّا أنّ هناك فارقاً جوهرياً بين ظروف تكوين هذه المؤسسات (والقيّمين عليها) وبين المثال الذي تقلّده: الأميركيّون موّلوا مختبرات ومراكز أبحاث لأنهم كانوا في حاجة لصناعة قنبلة نووية، وليس لأن وجود هذه المؤسسات، مجرّد وجودها، هو ضرورةٌ شكلية لاكتمال "بنية" الوطن، حتى لو لم نعرف ــــ بالتحديد ــــ الهدف من عملها وجعلناه اختبارياً ومدرسياً. بالمعنى نفسه، صعد القطاع المصرفي الحديث في المانيا، في القرن التاسع عشر، كضرورة تنموية حتى تتمكن الدولة من تجميع رأس المال الوطني وتوجيهه لبناء صناعات وتكتلات تجارية، ومنافسة فرنسا وبريطانيا؛ أمّا في بلادنا، فالمصرف الخاص لا يعرف هدفاً له الّا خدمة رأس المال (الأجنبي والداخلي)، وتأمين اختراقه الكامل للمجتمع، وهو لا يلعب أيّاً من الأدوار "التاريخية" والتنموية التي يفترض انّه قد وجد لأجلها (في لبنان، كثيراً ما لا يجد المصرف تبريراً لوجوده، وللعمولة التي يفرضها على المواطن والمجتمع، الا عبر التذكير بعدد الموظّفين الذين يشغّلهم ــــ لتسيير أعماله وزيادة أرباحه ـــــ كأن في ذلك فضلاً واحسانا).
هي نقطة أساسية ومحوريّة لتوطئة الجزء الأخير من هذا المقال، ولا يمكن فهم النفور الشديد الذي طالما عبّر عنه هادي العلوي ضدّ المثقّف "الغرباوي"، والطبقة الوسطى التي يعكسها في فكره وعمله، الا عبرها: إنّ ايّة مقارنة بين النخبة في بلادنا والطبقة الوسطى\ العليا التي ترادفها في الغرب (في المهام والموقع الطبقي و"التوصيف الوظيفي") هي مقارنةٌ مضلّلة وخادعة وكاذبة. النخبة الغربية، التي تنال أجوراً كبيرة ومستوى حياة مرتفع، حتى مقارنة بمواطنيها، هي من أكثر الطبقات انتاجاً وفعاليةً وانضباطاً في التاريخ، ولا وجود للنظام الرأسمالي الحديث من دونها. الباحث الذي يذهب يوميا الى عمله، كأي موظف آخر، يكون جزءاً من عملية انتاجٍ منهجية يتمخّض عنها أدوية جديدة واكتشافات تدرّ المليارات على الاقتصاد. هذه الفئة الثرية والمتعلّمة والمحترفة والمتدرّبة، على جشعها وطبقيتها وتسخيرها لخبراتها في خدمة نظامٍ سيّئ، هي المحرّك الأساس للنظام الاقتصادي في هذه الدول، وأكثر من ينتج القيمة فيه.
أمّا في بلادنا، فحين نشير الى هذا "القطاع الحديث"، الذي خلقه توسّع السوق العالمية ويشكّل واسطتنا معها، الى هذه الطبقة التي تتماهى مع الغرب وأسلوب حياته وسياساته، والتي تبتزّنا من فنزويلا الى بلاد العرب، وتطالب بحقّها في ادارة البلد وتوجيهه لخدمة مواقعها، فالكلام هنا هو ليس ضدّ "الحداثة" كمفهوم. نحن نتكلّم هنا عن نخبةٍ صوريّة بنت في دول الجنوب المستَعمرة مؤسسات هي، في أفضل الأحوال، واجهةٌ لا تخدم الّا من يديرها باعتباره "سلطة" أو "خبيراً": إعلامٌ ليس إعلاماً، وجامعات ليست جامعات، ومصارف تنهب ولا تخدم، في "أوطانٍ" هي، في الحقيقة، ليست أوطاناً.