لا يوجد ظاهرياً رابط مباشر بين الأزمة الاقتصادية ــ الاجتماعية التي تعاني منها أوروبا والتدابير المتخذة أخيراً من جانب حكوماتها لتلافي الهجمات التي تعدّ لها تنظيمات وهابية مثل «داعش» وغيرها. هذا على الأقلّ ما يظهر لنا من تصريحات المسؤولين الأوروبيين الذين يتحاشون حتى الآن مقاربة الأزمة كما هي، ويفضّلون على ذلك تناولها صُورياً، فيفصلون بين العوامل الاقتصادية والسياسية، ويركّزون جلّ اهتمامهم على الملاحقات الأمنية للأفراد المشتبه بهم. فبالنسبة إليهم والى قطاع عريض من الطبقة السياسية الحاكمة هناك لا تزال الأزمة تعبّر عن معطى خارجي، وعلى أساس هذا المعطى تبنى السياسات التي تتصدّى للأزمة، وهي في معظمها مفارقة للواقع، إن لم نقل ملفّقة له بالكامل.

«النموذج الألماني» في «الإدماج»

يحصل ذلك في سياق عريض تشهده أوروبا منذ فترة وتعاني مجتمعاتها من تبعاته، ويتمثل في تصاعد موجة العنصرية والعداء للمهاجرين، وتحديداً في الدول التي نجحت أكثر من سواها في «إدماج المهاجرين» وتحويلهم إلى رصيد إضافي لقوّتها الاقتصادية. وهو ما يضع علامات استفهام على البعد الاقتصادي للظاهرة، وخصوصاً في ألمانيا التي حُيّد فيها الأثر الاجتماعي المباشر لوجود المهاجرين لمصلحة «تمكينهم اقتصادياً» والاستفادة من قوّة عملهم التي تعتبر «رخيصة» وغير مكلفة على الصعيد المادّي. وقد جرى في الحقيقة استغلال هذه الناحية لتسويق «صورة جيّدة» عن هذا البلد الذي لم يعانِ يوماً من مشكلة الهويّة، لا بل حقّق بفضل انعدام هذه المعاناة تراكماً اقتصادياً استفادت منه مختلف الشرائح الاجتماعية الألمانية، بما في ذلك المهاجرون أنفسهم. ولم يتغيّر هذا الوضع أثناء الهزّات التي شهدتها أوروبا في السنوات العشرين الماضية، فبقيت ألمانيا بمعزل عن الاحتجاجات التي فجّرها المهاجرون وأبناء الضواحي في فرنسا، ولم تتأثّر اجتماعياً بارتدادات أحداث 11 أيلول 2001، رغم أنّ الجالية المسلمة فيها تعدّ بالملايين. اجتازت البلاد كلّ هذه المنعطفات «بسلاسة نسبية»، وبقيّت تعوّل على الفوائض الاقتصادية التي تحقّقت لها في المرحلة السابقة، مستفيدة من ارتباط اقتصادها بنيويّاً بعامل الهجرة الذي يرفد «النموّ»، ولا يسمح بحصول انهيارات اجتماعية على غرار ما يحصل في دول أخرى. أصبح الازدهار بهذا المعنى مرتبطاً «بعوامل خارجية»، ولكن ضمن ضوابط يضعها النظام وينظّم من خلالها العلاقة بين مؤسّسات الدولة الاقتصادية والمهاجرين الآتين من المنطقة العربية وشمال أفريقيا. هذا العامل لم يكن موجوداً في دول أخرى مجاورة نظراً إلى افتقادها إلى البنية الاقتصادية التي تتمتّع بها ألمانيا، وهو ما أبقى علاقتها - أي الدول - بالمهاجرين ضمن الإطار الأمني الذي لا يساعد عادةً في حلّ مشاكلهم ويحفظ لهم دوراً هامشيّاً في المجتمع.

محدودية عمل النموذج

بعد «انتهاء الاحتجاجات السياسية» في المنطقة العربية وتحوّل بعضها إلى ذريعة لتحطيم المجتمعات والحدّ من تماسكها الداخلي تأكّدت العلاقة السببية بين التراكم الاقتصادي في ألمانيا والهجرة إليها من دول المنطقة، فالتزايد في أعداد المهاجرين الهاربين من «الحروب الأهلية العربية» انعكس بشكل ايجابي على الوضع الاقتصادي الألماني، وهو ما تعبّر عنه بوضوح أزمة منطقة اليورو التي تديرها ألمانيا من موقع القوّة إلى جانب المصرف المركزي الأوروبي. تحوُّل هذه الدولة إلى دائن لمعظم اقتصادات أوروبا (اليونان، البرتغال... الخ) التي تعاني من حالات إفلاس وعجز عن سداد الديون هو نتاج للطفرة الاقتصادية التي ساهم المهاجرون في إحداثها، ولهذا السبب تحديداً تبقى أبواب الهجرة مشرعة لهم دوناً عن باقي الدول الأوروبية (باستثناء السويد)، ويَسهُل عليهم الحصول على الجنسية الألمانية التي تساعدهم طبعاً في مزيدٍ من الاندماج في المجتمع. ولأنّ هذا الاندماج يعتبر انعكاساً مباشراً لمتانة الاقتصاد الألماني فقد أخذ يعاني من مشاكل أخيراً، وخصوصاً بعد تدهور العلاقات الاقتصادية مع روسيا وتأثّر القطاعات الإنتاجية التي تعتمد اعتماداً مباشراً على السوق الروسية. هذا التراجع في حركة التصدير تسبّب بانكماش في الاقتصاد عبّرت عنه نتائج الربع الأخير من العام الماضي، ورغم تحسّنه الآن إلا انه أثّر بشكل أو بآخر في تقبّل شرائح اجتماعية بعينها لتزايد حركة الهجرة، فهذه الاخيرة تعتبر نفسها متضرّرة من اعتماد الاقتصاد الألماني على حركة الهجرة، ولا تفهم السبب الذي يدفع بالاقتصاديين وأصحاب الرساميل إلى إخراجها من السوق ودفعها إلى البطالة. هؤلاء ليسوا فاشيين بالضرورة، وبالتأكيد لا يحضّون على كراهية المهاجرين كما تفعل حركة «بيغيدا» الفاشية، ولكنهم يعبّرون عن حالة موجودة في المجتمع الألماني، ورغم أنهم لا يمثّلون الغالبية التي لا تزال حذرة من إبداء مشاعر مماثلة تجاه المهاجرين، إلا أنهم في تزايد مستمرّ، وإن بقيت مشكلتهم من دون حلّ فسيجدون أنفسهم «مجبرين» على التخندق مع التيار الفاشي الذي تعبّر عنه «بيغيدا». والحال أنّ الانعكاسات المباشرة لهذا التململ ليست بالقليلة، فقد أخذ المجتمع هناك ينقسم على نفسه، وبدأت تظهر حركات مضادّة تدعو إلى التسامح مع المهاجرين والأقلّيات، وتحضّ الحكومة على منع التجمّعات الفاشية المطالبة بالحدّ من الهجرة. وإذا كان النموذج الألماني قادراً على استيعاب هذه التناقضات فهو بالتأكيد ليس محصّناً ضدّ الانهيارات الاجتماعية، ورغم أنّ ما يحصل الآن في ألمانيا ليس انهياراً بالمعنى الفعلي للكلمة إلا انه قد يتطوّر ويصل إلى هذه المرحلة، وحينها يصبح الاقتصاد نفسه مهدّداً بالشلل، وتغدو قدرته على الاستفادة من العمالة المهاجرة أقرب إلى الصفر.

الاعتياد على الفاشية

في هذه الأجواء يصبح تقبّل الفاشية ممكناً أكثر من ذي قبل، وتتحوّل الحركات المعبّرة عنها إلى حالة «شبه اعتيادية» في المجتمعات الأوروبية، وهو ما يزيد من تعقيد العلاقة بين الأكثرية والأقلّيات في أوروبا، ويجعل من المجتمع هناك عرضةً لانقسامات متزايدة إن على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي. ومن سوء حظ ألمانيا أنها الوحيدة التي أتت الفاشية الجديدة إليها من الشارع وليس من الأحزاب أو التقليد السياسي كما هي الحال في فرنسا مثلاً، حيث مرّ على تكوّن حزب «الجبهة الوطنية» أكثر من ثلاثين عاماً، ولهذا الحزب كما نعلم ممثّلون في البرلمان، وغالباً ما تكون تعبيراته «منضبطة» بتقاليد السياسة الفرنسية على عكس ما قد يأتي به الشارع في حالة ألمانيا. فهناك تصبح التعبيرات منفلتة تماماً ويتحوّل أيّ شعار ضدّ الأقلية المسلمة أو المهاجرين عموماً إلى كرنفال كراهية لا يخلو من التعابير السوقية والمبتذلة. والمشكلة أنّ هذا التعبير لم يعد معزولاً تماماً، وأصبح يلقى صدىً لدى شرائح اجتماعية لم تكن تُظهر في السابق عداءً من أيّ نوع للمهاجرين أو المسلمين. ففي استطلاع أجرته مؤسسة «فورسا» لمجلة «شتيرن» الألمانية أبدى 13% من المستطلعة آراؤهم استعدادهم للمشاركة في تظاهرات مناهضة للمسلمين إذا جرت في مدنهم. وأظهر الاستطلاع أيضاً أنّ 29% من هؤلاء يعتقدون أن الإسلام يؤثّر في نمط الحياة في ألمانيا بدرجة تجعل لهذه التظاهرات ما يبرّرها. ولكي لا يعتاد الناس هناك أكثر من اللازم على الفاشية ويعتبروها تعبيراً سياسياً طبيعياً عن «السخط الموجود داخل المجتمع» تجاه المهاجرين فقد تجنّدت الطبقة السياسية الألمانية لإثبات العكس عبر دعواتها المتكرّرة لمسيرات تعبّر عن «التسامح» الموجود في ألمانيا. وبالفعل حشدت هذه المسيرات عشرات الألوف من الناس في مدن مثل ميونيخ وبون وكولونيا، وشاركت في بعضها شخصيات سياسية كبيرة مثل المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ووزير خارجيتها فرانك فالتر شتاينماير، فضلاً عن رئيس الدولة يواخيم غاوك. ولهذه المشاركة بالطبع خلفيات سياسية واضحة فهي ليست فقط تعبيراً عن تضامن الطبقة السياسية مع المسلمين الألمان، وإنما تؤشّر أيضاً إلى الخشية الموجودة لدى كتلة ميركل الحاكمة من فقدان النفوذ لمصلحة أحزاب أقصى اليمين التي تؤيد احتجاجات «بيغيدا». فبحسب «روسيا اليوم» يخشى العديد من حلفاء ميركل وأعضاء كتلتها من أن يخسروا التأييد لمصلحة حزب البديل الألماني من أجل ألمانيا (afd) المساند للفاشية التي تعبّر عنها حركة «بيغيدا». وهذا ليس بالأمر العادي في مجتمع حُظرت فيه الأحزاب الفاشية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأصبح التمثّل بها بمثابة جناية أو مخالفة للقانون. وما تفعله حركات مثل «بيغيدا» الآن أنها «تعيد تعريف السياسة» في ألمانيا متحديةً الجميع وعلى رأسهم الأحزاب الحاكمة، وعينها بالطبع على المجتمع الذي لم يعد يرفضها كما في السابق. هي الآن تعيد تطبيع العلاقة معه، وتسمح له «بالتعبير عن نفسه» من خلال الاحتجاجات مستغلّة نقمته على السياسيين المؤيدين للهجرة والإدماج، وهو ما يضع المجتمع بكامله وليس فقط الشرائح المؤيدة للفاشية فيه أمام مرحلة جديدة اسمها «التعايش مع الفاشية» أو إذا شئتم الاعتياد عليها.

خاتمة... «بيغيدا في كلمات»

الاسم الذي اتخذته هذه الحركة لنفسها يختصر جملة بالألمانية معناها: «أوروبيون وطنيون ضد أسلمة الغرب»، ويلبّي في الوقت نفسه حاجة موجودة لدى شرائح ألمانية للتظاهر والاحتجاج على النموذج الذي تعتبره «مجحفاً بحقّها». هي - أي الحركة - في الحقيقة لا تمثّل شيئاً ولا تعبّر عن قيم يمكن الاعتداد بها، ولكنها تستقوي بشرائح اجتماعية «متضرّرة من الهجرة»، أو هكذا تتصوّر على الأقلّ. وهذه الشرائح هي التي تعطي «شرعيّة» للحركة الفاشية وتمنحها بعداً اجتماعياً تستطيع من خلاله الادعاء بأنها تمثّل شيئاً بالفعل داخل المجتمع الألماني. إذ إنّ أعضاءها من الألمان العاديين لا يعبّرون فقط عن نخب أو عن مصالح رأسمالية، وإنما هم في المجمل فقراء ومهنيون وعمّال وشرائح من الطبقة الوسطى «أعياهم النموذج» ولم يجدوا أمامهم إلا «بيغيدا» التي أصبحت مع الأسف تمثّل «حالة اعتراضية فعلية» على الواقع القائم. ففي ظرف أشهر قليلة تمكّنت الحركة من تعبئة «قطاع كبير» من الشارع الألماني، مستفيدةً من «الشرط الاجتماعي» الذي يلقي بالمسؤولية عن البطالة المتزايدة بين صفوف الألمان على عاتق المهاجرين. مع العلم أنها لم تطرح أيّ شعار اقتصادي، واكتفت بالتعبير عن «الاختلافات الثقافية» بينها وبين المهاجرين المسلمين، متهمةً إياهم «بأسلمة ألمانيا»، وداعيةً إلى ترحيلهم من البلاد والحدّ من هجرتهم إليها. كان هذا كافياً ليسير خلفها أكثر من عشرين ألف متظاهر في شوارع دريسدن في كانون الأول من العام الماضي، فالشعارات الشعبوية تقدر في ظلّ انعدام التأويلات الحقيقية للواقع على استقطاب الناس ودفعهم للصدام مع آخرين يشبهونهم في الفقر والانتماء الاجتماعي والحاجة إلى العمل، رغم أنهم ليسوا بيضاً مثلهم.
* كاتب سوري