أحدث الكتاب المميز «الاستشراق» للراحل إدوارد سعيد ضجة في الغرب خصوصاً ربما في دوائر الأكاديميا والثقافة أكثر منه في دوائر السياسة والحكم. فدوائر السياسة والحكم هي جاهزة بخطة وهدف استعماري واضح. أما الأكاديميا والثقافة، فقد جاء الكتاب في فترة مشروع يميني برجوازي يُعلي من شأن الثقافة لإخفاء الجوهر الاستغلالي لرأس المال والاستعمار والمصالح المادية عموماً ما حول الثقافة إلى مطية عبور إلى الشرق خصوصاً. بل شمل الإعلاء من شأن الثقافة كثيراً من الماركسيين، أي الثقافويين وطبعاً مدرسة فرانكفورت اليسارية.

ولعل القضية المركزية التي أسّس لها الاستشراق عموماً هي أن الغرب غزا الشرق لهدف مزدوج:
ــ ليعرف ماهية الشرق، طبعاً لكل لون استشراقي لهدفه.
ــ ليعيد خلق الشرق، وهذا شأن الاشتراق الرسمي/ الاستعماري والثقافي، كيف يراه هو، أو صياغة صورة للشرق كما يريدها الغرب (بحسب إدوارد سعيد).
وهنا تكمن سلسلة من المعضلات، فخلق صورة للشرق مقصود بها وضع رؤية او استراتيجية او خطة للسيطرة على الشرق وحكمه والتحكم به.
ومن هنا الجوهر الاستعماري للاستشراق والذي تجسد من دون مواربة في استعمار عسكري اقتصادي ثقافي ولم يتوقف بعد ولن يتوقف بخاطره. وقد اتخذت هذه المظاهر حالات تبادلية بمعنى أن الاستعمار العسكري كان هو البداية، تبعه طبعاً الاستعمار الاقتصادي ومن ثم الثقافي. وحيث خرج الاستعمار العسكري المباشر، ترك وراءه التبعية الاقتصادية وكذلك الثقافية ومعاً أُبقيا أو دَعَما التبعية السياسية، ما خلق حتى الآن تناقضاً صارخاً بين النخبتين/ الخاصرتين الضعيفتين المتخارجتين في المجتمع الشرقي وخصوصاً العربي وهما:
ــ النخبة السياسية (غالباً طبقة الكمبرادور).
ــ النخبة الثقافية (الطابور السادس الثقافي).
وبين الشعب، أو الأمة اي الأكثرية الساحقة من الشعب التي دفعت ثمن الاستقلال السياسي من دون أن تكن لها حصة في الحكم والثروة بعد «خروج» الاستعمار، وهو الخروج غير المؤكد ما يجعل ويضع نظريات ما بعد الاستعمار محل نقد وإعادة نظر.
وحيث بقيت التبعيتان الاقتصادية والثقافية فقد تبادلتا الأدوار، فالغزو الثقافي كثيراً ما يلعب وبهدوء وخبث دور الممهد أو المغطي على الغزو الاقتصادي في شكله الحديث أي التبادل اللامتكافئ والذي أخذ يقوم في العقود الأخيرة على تحالف:
ــ الرأسمالية في المركز بما هي مقر القرار الإداري والتراكم المالي لرأس المال العالمي.
ــ طبقة الكمبرادور في المحيط.
وهما معاً يشكلان ما اسميته «القطاع العام الراسمالي المعولم» (Adel Samara, Epidemic of Globalization, 2001 ) وبخاصة بعد تفكيك الكتلة الاشتراكية، حيث اصبح العالم بمثابة قطاع عام لهذه الرأسمالية بمرتبتيها او طرفيها المتحالفين.
تجدر الإشارة إلى أن هدف ومآل الاسشتراق بما هو مشروع دولاني أكثر مما هو ثقافي أكاديمي، جاء مخالفاً لتحليل ماركس (توقعاته) بأن الأمم المتقدمة تخلق أو تعيد خلق الأمم غير المتقدمة على شاكلتها (البيان الشيوعي). كان الرجل محفوزاً بضرورة رسملة كل العالم لوصول سريع إلى استحكام تناقضاتها، أي الرأسمالية، ومن ثم انفجار العالم ثورياً للدخول الى الاشتراكية. بنى تحليله على ان مصالح راسمالية المركز سوف تدفعها إلى رسملة المستعمرات، وهو الأمر الذي اتخذ منحى آخر وهو الإبقاء على تخلف المحيط وانتداب قوى سياسية وطبقية تتمفصل مصالحها مع المركز وتحول هي والمركز دون تطور بلدها نفسه. ومن هنا كيلت التهم لماركس بأنه استشراقي ومركزاني أوروبي... الخ. أي لم يُغفر له خطأ الاستنتاج بل وتم دفع الخلل ضد النظرية نفسها!
حُوّلت المسيحية إلى
ديانة تبرّر الاستعمار والاستغلال للأمم
الأخرى

وبالطبع، ساهمت في رتق الثغرة في التحليل المادي التاريخي مساهمات مدرسة النظام العالمي سمير امين وجوندر فرانك وجيوفاني أريغي وإيمانويل وولرشتين والتي أكدت السياسات الاستقطابية للمركز والتي من نتائجها احتجاز تطور المحيط.

احتلال المسيحية أم إعادة خلقها

في كتابه «اثينا السوداء» يشرح برنال كيف قامت المركزانية الأوروبية باغتصاب او سرقة الحضارة اليونانية والزعم بأنها أوروبية. كما يشير سمير أمين أن الغرب اختطف المسيحية وأبانها كما لو كانت أوروبية. وكان ماركس في زمانه قد شرح كيف أن الراسمالية رسملت المسيحية واليهودية فاصبحت المؤسسة الإكليركية أداة لراس المال.
ولكن الأمر ربما أعمق من هذا. فقد حُوّلت المسيحية إلى ديانة تبرر الاستعمار والاستغلال للأمم الأخرى بمعنى ان زعم ان المسيحية غربية هو اقل خطراً من تحويلها الى دين استعماري امبريالي. اي اصبح رجل الدين باسم الدين مثقفاً عضوياً لراس المال. فلم يعد الأمر مجرد اختطاف إنجاز حضاري ثقافي بل توظيفه بعكس رسالته الشرقية الأساسية وإعادة إنتاجه بما يتصالح ويتحالف مع اليهودية ممثلة بالصهيونية هذه المرة، ما أثمر اليهو-سيحية، وفي النهاية توظيفهما ضد الإسلام في محاولة التوائية جوهرها ضد العرب لاضطهادهم واستغلال ثرواتهم اي ضرب المشروع القومي العربي وبخاصة اليوم أي وجهه المقاوم وسوريا والمتحالف مع إيران. وقد تبيّن هذه المسألة ما يلي:
ــ ما الذي يدفع السعودية كدولة عربية ومسلمة إلى تدمير ليبيا والآن سوريا؟
ــ ما الذي يدفع السعودية كمسلمة إلى معاداة مطلقة مع إيران المسلمة؟ في حين لا تفعل شيئاً ضد الكيان الصهيوني الذي يحتل أرضاً عربية! هذا من دون ان نخوض في تفاصيل تبين علاقات عميقة وتحتية بين السعودية وقطر والكيان الصهيوني.
بل صار يُنظر إلى تسامح الإسلام مع الأديان الأخرى على أنه آتٍ من موقف دوني في محاولة استرضاء لمن هم في الموقع «الأعلى».

استشراق إرهابي

ليس هنا مجال قراءة تاريخ تطور التيار الوهابي كقوة سياسية ومن ثم كنظام سياسي، وبخاصة علاقته بالاستعمار البريطاني. ما يهمنا الإشارة إلى أن للاستشراق طبعة إرهاب ديني أي أبعد من المستوى الثقافي العام. وهذا شديد التأثير في المجتمعات التي يشكل الدين جزءاً اساسياً من ثقافتها كالمجتمع العربي. فقد تمكن التحالف بين الوهابيين والاستعمار من خلق تيار دين سياسي يقوم على العنف والإقصاء لكل من لا يتفق مع تعليماته. وفي هذا تكمن جذور «القاعدة» و»داعش» الذي نراه اليوم.
والمهم أنه كما تم احتلال المسيحية تم احتلال الإسلام من الغرب، وهذا المرة من دون تبنيه كما حال المسيحية، بل وضعه في مختبرات مخابراتية وأكاديمية عنصرية في خدمة راس المال وكذلك تمت إعادة إنتاجه في طبعات مشوهة ودموية كانت الوهابية بدايتها والتي كان أخطر ثمراتها توليد القاعدة من:
ــ فكرة مدير الاستخبارات الفرنسية (انظر كتاب المملكة من الداخل لروبرت ليسي، والمطبوع في السعودية نفسها).
ــ الاحتضان الأميركي.
ــ الوفير من الفائضين الخطرين من السعودية: الريع النفطي لتمويل الحرب على افغانستان، وفائض خريجي الثقافة الوهابية من السعوديين انفسهم، وغيرهم لاحقاً.
ما يهمنا هنا هو محاولة كشف الدور الراسمالي الغربي في هذه الطبعة الاستشراقية، «الاستشراق الإرهابي» والذي يختلف عن الاستشراقات الأخرى ليس من حيث منبعه وتولده فحسب بل الأهم من حيث أدواته. فأدوات الاستشراق الإرهابي التنفيذية محلية جرى توكيلها بالانتحار الذاتي عبر تدمير مجتمعاتها.
كذلك يتميز هذا الاستشراق بكونه ذا توجهات تدميرية شاملة، بعكس الاستشرق الثقافي الذي يحتل الخطاب ويحوله إلى تابع، أو الاستشراق السياسي الاقتصادي الذي يكرس التبعية لنهب الثروات. هذا الاستشراق الجديد هو مشروع تدمير وإدارة مذبحة شاملة ضد مكونات الأمة العربية من داخل هذه الأمة.
وعليه، إذا كان الاستعمار سواء بوصفه استشراقاً أم لا، وبتحالف طبقات محلية معه، قد عمل على إخراج العرب من التاريخ (على رأي فوزي منصور)، فإن الاستشراق الإرهابي يدفع باتجاه مذابح قد تقود إلى إبادة جماعية ذاتية. وهو ما يتضح ضد سوريا والعراق وليبيا واليمن بخاصة.
وفي أحسن الأحوال، فهذا الاستشراق الإرهابي قد ينتهي إلى كيانات طائفية منعزلة في منعزلات عن بعضها، وفي عداء وحروب دائمة مع بعضها، ما يجعل السيطرة الغربية عليها ضرورية «كحماية» لها من بعضها، هذا أفضل ما يخدم الدولة اليهودية النقية ويجعلها الأقوى وإن أمكن الأكثر عدداً وحتى مساحة.
لعل من الأخطار الإضافية للاستشراق الإرهابي، أنه أُحيط بقوى ثقافية وفكرية هي اساساً ضد الاستشراقات الأخرى أو الكلاسيكية إن صح التعبير.
فالمفترض، وربما المألوف ان القوى اليسارية والماركسية والقومية والدينية المؤمنة حقاً، هي ضد الاستشراق بما هو إما توليد استعماري مباشر أو جرى توظيفه لمصلحة الاستعمار.
أما الاسشتراق الإرهابي، فقد تم حمله كذلك من مثقفين حتى من خلفيات ماوية (برنار هنري ليفي) وتروتسكية (طارق علي وجلبير اشقر).
والأشد خطورة تطوع أو شراء كثير من المثقفين العرب لمصلحة هذا الاستشراق، اي الطابور السادس الثقافي. فمن الناحية الدينية، وقف الشيخ يوسف قرضاوي كداعية لهذا الإرهاب، وليس ما قاله فقط تبرير مقتل ثلث الشعب السوري مقابل إسقاط النظام السوري. وطبعاً لم يقل بالتضحية في المقابل لتحرير فلسطين. ومن ناحية يسارية كان برهان غليون والطيب تيزيني. أما عزمي بشارة وميشيل كيلو فمتطوعان من خلفيات يسارية دون خلفية دينية إسلامية، متطوعان لمصلحة الاستشراق الإرهابي لقوى وأنظمة الدين السياسي وهذه مفارقة مرفوعة لأُسٍّ أعلى.
ولعل الأكثر مفارقة موقف صادق جلال العظم صاحب «نقد الفكر الديني» حيث ألفه وهو في حماية سوريا! النظام السوري الحالي نفسه الذي يقف العظم ضده مدافعاً عن طائفة السنة التي طليعة مقاتليها الإرهابيين هي داعش والقاعدة. لعل المفارقة اللافتة أن صادق العظم هو من أوائل من نقدوا كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، نقداً في محله حيث نقد قول سعيد: «إنني لا انتحب على تبعية العرب لأميركا ولكن على طريقة معاملة أميركا للعرب». هذه السقطة التي رد عليها العظم في مقالته «الاستشراق معكوساً» (مجلة خمسين، العدد 8 بالإنكليزية عم 1981 ص 5-26). وهكذا لينتهي العظم داعماً، شاء أم أبى مباشرة أو مداورة للاستشراق الإرهابي وضد بلده تحديداً سوريا!
والحقيقة أن هذا التورط لدى العظم كان سابقاً على الأزمة ومن ثم العدوان الجاري ضد سوريا. وفي حدود ما نعرف، كان موقفه الإيجابي من العولمة (انظر كتاب: ما هي العولمة لصادق جلال العظم وحسن حنفي، دمشق 1999 ص 200-201) وكذلك في حدود ما نعرف، فإن المناخ الاحتوائي الذي توفره الإمبريالية الألمانية لمثقفين عرب ومنهم العظم، تشجعهم أو تغريهم أو أي شيء آخر على التواطؤ مع المركزانية الأوروبية ضد الأمة العربية وربما هذا ما اوصل هؤلاء إلى التحول إلى مثقفين عضويين للإرهاب. ليست هذه العُجالة بكافية لدراسة الاستشراق الجديد هذا، اي الإرهابي، ولكنها محاولة فتح مناقشة.
* كاتب عربي ــ فلسطين