حالة الأزمة والعقوبات والمواجهة الدولية تنتج دائماً معادلات مثيرة في قلب بلدٍ كروسيا، يقف اليوم على مفترق طرق يقول بعض الخبراء المؤيدين لبوتين إنّه سينتهي الى نظام «رأسمالية دولة» أكثر عمقاً، وسيطرة أكبر لبوتين على الأوليغارشيين، ويضيفون أن «نهضة» اقتصادية لروسيا ستتمخّض عن «اصلاحات الأزمة».بعد أن خفّضت شركة «ستاندارد آند بور» تصنيفها للسندات الروسية الى ما دون درجة الاستثمار، وخسر الروبل أكثر من أربعين في المئة من قيمته، وفشلت وزارة المال الروسية، مؤخراً، في بيع اصدار صغير للسندات – لا يتجاوز السبعين مليون دولار، مع فائدة تفوق الـ15 بالمئة، صار واضحاً للنظام ولرجال الأعمال الروس أنّ الأمور لن تعود كما كانت، وأنّ الحكومة والمصارف والشركات أضحت معزولة عن الاقتصاد الغربي، وعلى روسيا أن تجد طريقاً جديداً ان شاءت تفادي الانهيار.

عقد بوتين سلسلة اجتماعات مع كبار رجال الأعمال في روسيا، ووجّه اليهم انذاراً في كانون الأول الماضي، مطالباً اياهم – بداية – بجعل روسيا مركز القيادة لشركاتهم حول العالم ونقل اصولهم الى الوطن.
كان آليشر عثمانوف ــــ أثرى رجل في روسيا حتى أسابيع قليلة، وأكبر المتضررين من الأزمة ــــ أوّل من سارع الى تلبية طلب الرئيس، فنقل ملكية أكثرية الأسهم لشركاته في الخارج الى فروعٍ لها في روسيا.
ثمّ أعلنت الحكومة انها قامت، في الأسابيع الماضية، بالاتصال بكبار رجال الأعمال لتطالبهم بدعم العملة الروسية وتحويل عائداتهم بالعملة الأجنبية الى روبلات. وافق البعض وتذمّر البعض الآخر (خاصة من لديه ديون بالعملة الأجنبية)، ولكن المسؤولين الروس كانوا واضحين: من يرفض اليوم لا يجب أن يتوقّع أن نساعده غداً بالقروض والضمانات.
هنا تتبدّى أهمّ ديناميات العقوبات وتأثيرها على التوازن الداخلي. صحيحٌ أن الأزمة تضعف روسيا، ولكنها تعطي بوتين سطوةً لا سابق بها على الأوليغارشيين وقطاع الأعمال، اذ هم يعرفون جيداً أن التمويل الأجنبي والقروض الغربية صار طريقها مغلقاً، ولم يعد أمامهم الا تمويل الحكومة ومصارفها.
عقوبات الغرب على ايران أنتجت حالة شبيهة، فمن الذي تأذى، بشكلٍ أساسي، من ضرب العملة وتصعيب التبادلات مع الخارج؟ القطاعات التجارية والوكالات، التي تعتمد على بيع المنتجات الغربية في ايران، كانت أوّل من سحقتها هذه الاجراءات (اذ صار سعر السيارة الغربيّة أضعاف كلفتها السابقة، وقس على ذلك). وهذه الفئات تشكّل، للمفارقة، «الحليف الطبيعي» للسياسة الغربية في ايران؛ فمصالحها تكمن في الانفتاح وتحرير التجارة، ومن صفوفها يخرج أبرز المعادين للنظام الحاكم – وفي الوقت ذاته، أضحت الشركات التصديرية، والصناعات القريبة من الدولة، أهمّ الفاعلين في الاقتصاد وأكثرهم ربحية (فعائداتها بالعملة الصعبة، بينما أكثر مصاريفها بالريال).
ستغيّر المواجهة شكل الاقتصاد الروسي، وسنشهد، في الأشهر المقبلة، استملاكات حكومية لشركات كبرى وتوجيه جديد للاستثمار، وخلق مجموعات مالية\صناعية ــــ كما يقول المقربون من النظام. هل سيكون انهيار أم نهضة؟ هذا ما سنراقبه بينما تولد، في خضم الأزمة والمواجهة، «روسيا جديدة».