كان من الصعب أن نتخيّل نجاحاً أكبر لتنظيم «الدولة»، بمعنى الحرب الاعلامية والتأثير و«الاستفادة» من الظفر بأسير، من ذاك الذي ناله عبر بثّ شريطه الأخير. التنظيم، الذي يُفترض به أنّه محاصر ومعزولٌ ومُحارب من الاعلام، تمكّن من جعل الجميع يشاهد رسالته، خلال دقائق من نشرها، وبصورته هو وشروطه هو. بل إنّ التأثير الصاعق للفيديو نجح في جرّ الحكومة الأردنية الى المكان الذي يريده فيها «داعش»، أي في موقع من يقوم بردّ الفعل.
قرارات الحكومة الأردنية ردّاً على إعدام طيّارها رفعت «داعش» الى مصاف الدول، أو وضعت الدولة الأردنية في مقام التنظيمات؛ وهو أفضل سيناريو ممكن لـ«داعش»، إذ تبدو فيه المبارزة بين الطرفين – في عيون الجمهور العربي - كأنها تدور بين «متساويين»، يتبادلان الإعدامات والانتقام (مع فارق أن الأول يرفع راية الخلافة، بينما الثاني يقاتل مع أميركا).
براعة «داعش» الاعلامية تتبدّى من اللحظات الأولى للشريط، حيث خطابٌ للملك الأردني يؤكد أن الطيارين يقاتلون مع التحالف تطوّعاً وبخيارهم، وصولاً الى خاتمته، حيث عُرضت لوائح بأسماء الطيارين والضباط الأردنيين «المطلوبين». فكان الشريط مثالاً على قدرة «داعش» على إنتاج رسالة إعلامية كثيفة ومعقّدة، موجّهة الى أكثر من جمهورٍ، وتهدف – في آن واحد – الى تحميس البعض، وإقناع البعض، وترويع البعض الآخر. ومن يرى حقّاً أنّ «داعش» قد آذى نفسه وشعبيته عبر طرح الشريط عليه أن يشير لنا، أولاً، الى القطاعات الشعبية التي كانت تؤيد «داعش» وأفعاله وفقهه، فانقلبت عليه بعد عرض الإعدام البشع.
غير أنّ النجاح الأكبر للفيديو كان في قدرته على إخفاء طبيعته كـ«سينما»، إذ تلقّاه أغلب الجمهور وعلّق عليه كأنه يشاهد «حدثاً» التقطته الكاميرا، لا فيلماً سينمائياً. نقول إن الإعدام كان سينمائياً ليس بمعنى أنّ التصوير كان «رفيع المستوى» و«هوليوودياً» وما الى ذلك، بل بمعنى أن المشهد برمّته، ككلّ إصدارات «داعش»، هو مشهدٌ سينمائي بحت: لا ترى إلّا ما يريد المخرج لك أن تراه، وأي ردّ فعلٍ اختلج فيك أثناء عرض الشريط لم يكن نتيجة تفاعل مباشر وحرّ مع حدثٍ يدور أمامك، بل هو تجربة مصممة مسبقاً، ومدروسة، حتّى تولّد فيك هذا التأثير بالضبط، كما في أيّ فيلمٍ آخر.
لا داعي لتكرار أن «داعش السينمائي» لا علاقة له بـ«داعش الحقيقي». والتسجيلات (القليلة) التي تصلنا من مقاتلين على الأرض – من دون مونتاج وإخراج – تظهر تنظيماً مختلفاً تماماً عن ذاك الذي نراه في الإصدارات الرسمية: رجالٌ من دولٍ عربية مختلفة، يتكلمون بلهجاتهم العامية، جوّهم فيه ارتجالٌ وفوضى، كأي تنظيم مقاتل. كذلك فإنّ عمل «داعش» وبنيته (الذي يتباين بشكلٍ كبير بحسب المناطق والجبهات) بعيدان عن الصورة المتّسقة، المثالية، والبالغة الانضباط التي نراها في شريط الإعدام وغيره.
هذا، في النهاية، فيلم تمّ تمثيله، وهكذا يجب أن نفهمه؛ موقع الإعدام خيار إخراجي، وكل من يظهر في الشريط هم فعلياً ممثلون يؤدون أدواراً محددة (بمن فيهم الضحية). أمّا تمكّن «داعش» من جعل صورته السينمائية (التي ينتجها هو) تطغى على «حقيقته» وتأخذ مكانها - لدى مناصريه وأعدائه – فهو يمثّل النجاح الأكبر للتنظيم.