المقصود هنا بـ «الأخلاق» ليس القيم الحميدة «الجميلة» التي يرتاح لها وعينا وثقافتنا، بل وجود نظام اخلاقي من أي نوع ينظّم العلاقة بين البشر وينتج، أوّلاً، مفهوماً مشتركاً عن الانسانية، يتجاوز فوارق اللون والدين والثقافة ويجعل الناس أنداداً. مع أفول عصر الأممية الشيوعية ونهاية وعد الليبرالية كـ «دينٍ» معولم، لم تعد هناك نظرية عامة تسمح بالكلام عن البشرية ككلٍّ تجمعه فكرة المساواة والتشابه، له مستقبلٌ مشترك، ويحتاج الى التآخي والتعاون من أجل تأمين حياةٍ أفضل لسكان الكوكب (حتى النظريات البائدة، كالماسونية والسيمونية، التي انتشرت بين النخب الأوروبية في زمن مضى، كانت تحمل وعداً مشابهاً، ولا نجد لها مقابلاً اليوم).
من هنا، من غير المستغرب أن تتحول الفوارق الحضارية والدينية (والهويات التي يتم اختلاقها و»اكتشافها» باستمرار) الى خطوط نارٍ وصراعٍ، وصولاً الى تحويل مفاهيم كرفض العنصرية والكراهية الى قيم نسبية، تطبّق في حالات وليس في أخرى. هذا تبدّى واضحاً في الخطاب الذي رافق جريمة «شارلي ايبدو» وواكب حملة التضامن معها، كما تجلّى في الموقف «الدفاعي» للعديد من المسلمين تجاه القضيّة.
منطقياً، يمكنك أن تدين الجريمة وتستنكرها، أو أن تعتبرها عملاً مشروعاً يبرّره الدين، أو أن تدّعي أنّ من قاموا بها ليسوا مسلمين، بل هي مؤامرة مخابرات (وهذا التحليل «التآمري»، بالمناسبة، ليس سيئاً في حدّ ذاته، بل هو يعكس نزعة – صحية - لدى بعض المسلمين ترفض تصديق أن من قام بهذه الجرائم الشنيعة هم من ابناء جلدتهم). ولكن الموقف الذي لا يمكنك اعتماده هو ذاك الذي يصل الى نتيجة أنّ «الجريمة هي تمثيلية أعدتها المخابرات، ولا علاقة لنا بها، والرسامون كانوا يستحقون القتل، والفعل كان شرعياً ومبرراً».
في الوقت نفسه، تحوّل الدفاع عن «شارلي ايبدو» في الخطاب الغربي الى دفاعٍ صريح عن «حق الاهانة» تحديداً، لا عن حقّ التعبير فحسب؛ كأنّ هناك قيمةً ما في اهانة الأديان والمقدسات (والثقافات والشعوب). بعد 11 ايلول، حين بدأت التحليلات الكارهة للاسلام بالظهور في الغرب، كان مروّجوها يجدون أنفسهم مضطرين لنفي تهمة العنصرية، واخراج الكلام العنصري على انه ليس كذلك. بل أن سياسياً اميركياً خرج بنظرية طريفة يومها تقول إنّ المسلمين ليسوا «عرقاً»، فخطابه ضدهم، بالتالي، لا يمكن أن يكون عنصرياً، مهما قال.
حدث اليوم انزياحٌ واضح، بحيث أصبح الدفاع عن خطاب الاهانة والسخرية يجري بلا اعتذاريات، بل صار العديد من العرب يتبنّونه، كأنّ من واجبك «الحضاري» أن تتقبّل من يهاجمك ويسخر منك ويهينك، بهدف الاهانة لا أكثر.
السخرية من المقدسات هنا انتقائية، فهي لا تنطبق على الـ «هولوكوست» مثلاً أو على تاريخ استعباد الأفارقة، بل تعكس موازين قوى مكرسة في السياسة والثقافة، ونظرة الغرب الى نفسه وضحاياه؛ ومن العبث لنا أن نفهم هذه المقاييس الغربية، المحليّة والضيقة والملأى بالتناقضات، على انها قيم كونيّة تعنينا وتُلزمنا.