بعد اكثر من ثمانية اشهر على انشاء «دولة الخلافة» الاسلامية إثر إجتياح اراض شاسعة في كل من العراق وسوريا، لم يوضع شعار مواجهة هذا المشروع الخطير موضع التنفيذ الجدي، اي لم يتحول الى اولوية حقيقية، كما تعهد فرقاء «التحالف العربي الدولي «الذي أُنشئ لهذا الغرض في مدينة جدة السعودية بقيادة الولايات المتحدة.
منذ البداية اتضح أمران: الأول، ان التحالف الدولي العربي المذكور جزئي، حيث استبعدت عنه قوى اساسية معنية بمواجهة المشروع الارهابي الجديد (وربما اكثر من سواها) كروسيا وايران والحكومة السورية... والثاني، أنه غير جدي، لجهة ادراج مشروع الحرب على الارهاب في سياق صراع قائم، دولي واقليمي، بقيت اولويات معظم الدول الفاعلة فيه على ما كانت عليه: إعادة ترتيب خريطة الأدوار والنفوذ والهيمنة وتبديل التوازنات والانظمة، على المستوين الإقليمي والدولي، ودائماً بالمواجهة مع التحالف الروسي الإيراني السوري... شكل المؤشر المبكر على هذا الخلل التأسيسي امتناع الحكومة التركية عن المشاركة، ولو الشكلية، في التحالف الوليد، رغم انخراطها المعروف في الأزمتين السورية والعراقية ورغم علاقتها الوثيقة بتنظيم «داعش».
فعلت «كوباني» ما عجز عنه الجميع! اي التصدي البطولي للوحش الإرهابي التكفيري وإرغامه على التقهقر والهزيمة

ولم يقتصر تمايز الموقف التركي على عدم المشاركة في تحالف «جدة»، رغم تكرار المناشدات والضغوط، بل استمرت الحكومة التركية في تكرار مواقف وخطط سابقة على إعلان دولة «الخلافة»، بشأن الوضع السوري خصوصاً والمنطقة عموماً. الواقع أن الحكومة التركية قد أصرت، وما زالت تصر، وبشكل وقح وعلني، على استثمار دعمها للتكفيريين الارهابيين في مرحلة ما بعد قيام دولة «الخلافة» كما كان الأمر قبل ذلك.
ومن جهتها، واصلت قيادة المملكة العربية السعودية اعتماد أولويتين متوازنتين ومتزامنتين: الحرب على النظام السوري والحرب على «داعش» في الوقت نفسه، تسايرها في هذه الثنائية المخلًة الولايات المتحدة الأميركية نفسها!
ادى ذلك، بين أسباب اخرى، الى اتضاح شكلية المشروع «الدولي» للتصدي للمشروع الارهابي الذي واصل تقدمه في العراق وسوريا كأن شيئاً لم يكن. ساهم ذلك، بشكل أساسي، في دفع القوى الأخرى المعنية بمواجهة نشوء مشروع «الخلافة» المتطرف، إلى مواصلة سياساتها السابقة نفسها من دون اي تعديل يذكر في علاقاتها وتوجهاتها (إلا ما برز أخيراً في بعض الحوارات التي حصل جزء منها في موسكو، من دون ان تترتب عليه نتائج مؤثرة حتى
اليوم).
بكلام آخر، لم يؤد بروز خطر الارهاب التكفيري الى فرض جماعية مواجهته من قبل المعنيين، عبر وضع خلافاتهم جانباً والتركيز على بند وحيد ذي أولوية مطلقة هي مواجهة الخطر الارهابي والقضاء عليه.
في الحرب العالمية الثانية توحد «الشرق» و«الغرب»، رغم ضراوة المنافسة والصراع بين النظام الرأسمالي القديم والنظام الاشتراكي الجديد، بعد تأجيل ومناورات وألاعيب، في مواجهة المشروع القومي النازي الفاشي المتطرف. أمكن من خلال التوحد قيادة مواجهة فعالة دفع فيها الحلفاء الجدد أثماناً فادحة، لكنهم حصدوا، بالمقابل، نتائج الانتصار الباهر، بشكل مشترك أسس لمرحلة تعايش وتوازن تاريخية امتدت لأربعة عقود ونصف من الزمن (حتى انهيار الاتحاد السوفياتي أوائل
التسعينيات).
ليس هذا فقط بل إن المحاور المتصارعة قد واصلت، بعد إعلان «جدة»، اشتباكاتها ومعاركها حيثما تيسر لها ذلك: واصلتها في العراق والبحرين واليمن، وفي شأن الملف النووي الإيراني، وفي أوكرانيا... إضافة إلى تنافس وصراعات بينية (ضمن المحور الواحد)، هنا وهناك: في مصر وسوريا والعراق... وصولاً إلى النفط والنووي الإيراني...
في ذلك المشهد الذي تداخل فيه وتفاعل التوحش البربري مع الانتهازية والفئوية والخطط التآمرية والحذر والمآسي والذهول وإزالة الحدود والعبث بالخرائط ووالقيم الدينية والإنسانية، وحدها «عين العرب» (كوباني) كانت صادقة ومصممة وشجاعة ومضحية دون حدود او مناورات.
ولذلك فقد فعلت «كوباني» ما عجز عنه الجميع! اي التصدي البطولي للوحش الإرهابي التكفيري وإرغامه على التقهقر والهزيمة بثمن معنوي وعسكري لم يكن، أبداً، في حسبان أحد! أما الاخرون، وخصوصاً جماعة «التحالف الدولي» بزعامة الولايات المتحدة، فلم تخرج أو تحيد مساهماتهم عن خططهم واستراتيجياتهم وحساباتهم ومصالحهم وفئوياتهم العامة حيال الصراع في المنطقة وفي العالم. هذا ما أكدته سياساتهم طيلة الأشهر الثقيلة الماضية، وهذا ما تؤكده، على الاقل، خطة الرئيس باراك اوباما «الجديدة» التي ارسلها، قبل ايام، الى الكونغرس الاميركي طالباً الموافقه عليها. الخطة «الجديدة» تلك، هي استمرار للسياسات التي اعتمدتها الادارة الاميركية وتكريس
لها.
وهي لن تؤدي، كما هو مؤكد، الى اي تغيير جدي على الارض الا بثمن تقرره وتجنيه الإدارة الاميركية بالدرجة الاولى: في العراق وسوريا ولبنان... بديهي ان يحصل ذلك طالما ان الإدارات الاميركية المتعاقبة قد تبنت مفهوماً انتقائياً للإرهاب، وطالما ان خططها قد تعاملت مع التطرف بوصفه أداة يمكن استخدامها في المواجهة مع الاعداء، بمعزل عن الملابسات المبدئية والاخلاقية، وحتى بمعزل عن النتائج البعيدة أو غير المباشرة التي لن تكون الولايات المتحدة نفسها بمنأى عن أخطارها، كما حصل في تفجيرات ايلول عام 2001.
الأسوأ، أيضاً، أن الإدارة الأميركية الحالية، كما الإدارات التي سبقتها، لا ترى أي صلة بين الإرهاب والتطرف الصهيوني المدعوم دائماً وأبداً من قبل واشنطن من جهة، وبين بعض ردود الفعل اليائسة أو المتطرفة عليه حالياً أو في السابق، من جهة ثانية! مثل هذا الخلل القاتل في الموقف الأميركي هو ما يمنع واشنطن من أن تشخص، بشكل سليم، أسباب التطرف وأشكال علاجه، فكيف لها أن تكون، والحالة هذه، زعيمة لتحالف دولي ضد الإرهاب، أوحتى شريكة نزيهة فيه؟! يشير البعض إلى ازدياد التباين، حالياً، بين الرئيس الأميركي باراك اوباما والرئيس الصهيوني نتنياهو. إنه تباين فعلي، لكنه تباين جزئي يفسره «البطر» الإسرائيلي وتراجع الدور الأميركي في العالم والصراعات الانتخابية في كل من واشنطن وتل
أبيب...
وفي الحديث عن مواقف بعض أطراف «التحالف العربي الدولي» ضد الإرهاب أو بعض حلفائه، سنقع على مفارقات عجيبة غريبة من نوع أن حكومات أو جهات، في دول كبيرة أوصغيرة، أو جهات أو مرجعيات سياسية أو دينية أو مالية أو معنوية في تلك الدول أو سواها... ما زالت تدعم الإرهاب والإرهابيين وتستثمر في التطرف أو توفر له الدعم المادي والمعنوي بشكل كبير وفي حقول ومجالات عديدة أخطرها مناهج التعليم والمرجعيات الفقهية والمؤسسات الإعلامية والاجتهادات الجاهلية...
ولو شئنا التوسع أكثر في تحديد المسؤوليات عن ممارسة الإرهاب أو التسبب بنشوئه كفعل أو كرد فعل، لما استثنينا أيضا العودة إلى سجلات الاستعمار والظلم والاستعباد والاستبداد والاغتصاب والاستئثار والقمع في مراحل وحقبات بعيدة أوقريبة، محلية أو دولية...
الإرهاب مسألة أخطر وأبعد أثراً من أن يجرى حصرها في شخص أو شكل أو حقبة. إنه ثمرة تفاعلات معقدة سياسية واجتماعية وثمرة نزاعات وطموحات كبيرة وصغيرة... لا يواجه الإرهاب، جذرياً، الا بمشاريع التغيير التحررية والتقدمية والحضارية الكبرى!

* كاتب وسياسي لبناني