تجري المحادثات في بروكسل بين القادة اليونانيين الجدد والمسؤولين الماليين في الاتحاد الأوروبي حول جدولة ديون اليونان، وقد تقرر تأجيل الاعلان عن اتفاق حتى الاثنين المقبل.في المبدأ، هناك ثلاثة خيارات أمام اليونانيين: امّا أن يتمّ تمديد صفقة الانقاذ الأوروبية (التي تؤمن مدداً مالياً للحكومة والمصارف بفوائد منخفضة، مقابل شروط تقشف واصلاحات داخلية)، أو أن يحصل اتفاق ماليّ بصيغة جديدة، أو أن يختلف الطرفان ولا يكون اتفاق.

حكومة «سيريزا» اليسارية ترفض فكرة تمديد «رزمة الانقاذ»، التي تبلغ قيمتها أكثر من 280 مليار دولار، للمرة الثالثة، وفرض المزيد من سياسات التقشّف على الشعب. امّا المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، فقد قالت بحزم، بعد كلمات ديبلوماسية لطيفة، إنّ على اليونان تمديد الاتفاق، أو استبدال بنوده بالتزامات مكافئة لها، «وهما الخياران الوحيدان».
الكثير من اليساريين المؤيدين لـ «سيريزا»، خارج اليونان، يتمنّون في دواخلهم أن يصل اليونانيون والأوروبيون الى عتبة الخلاف، وأن تفشل المفاوضات، وتُستكمل التجربة اليونانية كتحدٍّ لسياسات الاتحاد وخروجاً عنها، وهو الوعد «الثوري» الذي ولد مع انتصار اليسار في الانتخابات الماضية.
عدم الاتفاق بين اليونان والأوروبيين يعني، تلقائياً، دخول البلد في حالة الافلاس والتوقف عن الدفع. وهناك بالفعل مثالٌ يحتذى في هذا الاطار، هو التجربة الأرجنتينية وما صار يسمى بالـ «كيرشنرية»؛ حيث تلت الافلاس سياسات عزّزت النموّ والانتاج المحلي، وأعانت الطبقات الفقيرة، فسجّلت الأرجنتين، منذ اعلان «افلاسها»، نمواً يفوق 8 في المئة بين 2002 و2012، وانتعشت الصادرات الزراعية والصناعات، وسجّل البلد فائضاً مستمراً في الميزان التجاري.
المشكلة هي أنّ اليونان ليست الأرجنتين، والافلاس وحده، وتحدّي المموّلين والمصارف، ليس ضمانة اوتوماتيكية للنجاح، بل قد تكون له مفاعيل كارثية. المهم هو ليس في أن نصدح «لن ندفع»، «لن نرضخ»، بل في أن يكون التوقّف عن الدفع جزءاً من نظرية جديدة في ادارة الاقتصاد والمجتمع، ومفهوم واضح عن الاقتصاد الوطني وخلق القيمة فيه.
الأرجنتين، مثلاً، تملك تراثاً من التصنيع المحلي واستبدال الواردات، يعود الى أيام الحرب الكونية الأولى؛ وحين قام الرئيسان كيرشنر (نستور وكريستينا) بإعادة تنظيم الاقتصاد، وتأميم بعض القطاعات، وحماية الصناعة المحلية، كانا يتكئان على هذا التراث وهذه القدرات.
امّا في اليونان، فقد قام الجيل الحاكم، بعد سقوط الدكتاتورية عام 1974، ببناء اقتصاد يتماهى مع الفكرة «الأوروبية» التي تركّز على الحرية الفردية والاقتصادية، وعقلية الاستهلاك. هذا التحوّل أعانه تدفّق عائدات السياحة والخدمات وأموال الاتحاد الأوروبي.
أجندة «سيريزا» الحالية تعرض أفكاراً جميلة: الحد من ثقل الديون، زيادة الانفاق والاستهلاك الداخلي، رعاية الفئات الفقيرة، ولكن كلّ هذا لا يشرح لنا كيف سينمو الاقتصاد بشكلٍ مستقل عن رعاته الأوروبيين وينتج قيمة وتصديراً.
نقطة البداية في سياسات الأرجنتين لم تكن اعلان الافلاس والافتراق مع المؤسسات الدولية، بل «توافق بيونس ايرس»، الذي سبقه وجاء ليتحدى «توافق واشنطن» بأجندة بديلة وعمليّة (أثبتت نجاعتها)، وهذا ما يحتاجه اليونانيون، وغيرهم من ضحايا النظام العالمي، اليوم.