ماذا يجب أن تكون عليه حرية الرأي، عندما تكون حرية الاعتقاد تقتضي القتل أو الغزو، وحرية التعبير تقتضي الإساءة؟ سؤال عويص أوقع جلّ المعلقين على حادثة شارلي إيبدو المؤسفة، في ارتباك حقيقي فدبّجوا المقالات في الصحف والمجلات، وأطلقوا التحليلات والتعليقات والأحكام على الشاشات وأثير الإذاعات. ولكنهم في المحصلة الأخيرة لم يقولوا شيئاً أكثر مما قيل في أحداث مماثلة، مثل 11 سبتمبر، أو محاولة ذبح نجيب محفوظ، أو المقتلة التي تعرض لها الجزائريون وأمثالها.
طبعاً ولن نضرب صفحاً عن المقتلة التي يتعرض لها السوريون والعراقيون، وكذلك النيجريون والليبيون واليمنيون، فكانت الحصيلة أقوال مواربة (إلا فيما ندر) تتعامل مع حادثة «إيبدو» كاستثناء مخلّ بالسمعة، يقود إلى سوء التفسير، كإسلاموفوبيا جائرة، مع إضافة بهارات سوء نوايا الغربي الذي يتربص بنا، والناتج من حقد عميق وقديم ومستمر لنا. مقالات وديباجات وصراخ، دعوات إلى التكاره والتحاقد، دعوات إلى «ترشيد» حرية التعبير بسيف حرية الاعتقاد، أمثلة عن قمع حرية التعبير في الغرب، معاداة السامية مثالاً شهيراً، وإدانة هذا الاستثناء والمطالبة بمثله في آن معاً. فوضى خطابية وفكرية ومصطلحاتية، غافلة عن الأداء الاستعماري بكل أطيافه وأنواعه وتجلياته، لتصبح المسألة برمتها خارج الواقع المعاش. وكأننا لم نسمع بكل المنتجات الثقافية المؤسسة لهذا الواقع، والتي تجتاحنا (بمرافقة الاستعمار) هادمة في طريقها، كل ما من شأنه أن يؤسس لثقافة مجتمعية معاصرة، تستطيع أن تقيم جدلاً مع الآخر. جدلاً صراعياً منافساً تحتاجه أنواع العيش المعاصر كافة.
قلّة هم من وصلوا مباشرة إلى لبّ المسألة، فكتبوا في هذه المناسبة المؤسفة عن فصل الدين عن السياسة والقضاء، معيدين المسألة إلى جذورها الحقيقية؛ فالمسألة واضحة وضوح الشمس منذ عودة رفاعة الطهطاوي إلى مصر. إنها ميكانيزم الارتقاء، وطريق وحيدة للولوج إلى العصر والعيش فيه بكرامة. وبناءً على هذا الفصل (وغيره من العوامل التأسيسية)، تمّ الوصول إلى منجزات مقوننة قابلة للممارسة مثل حرية الاعتقاد والرأي والتعبير، وهي منجزات عالمية مصونة بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان، والمواثيق والعهود المتفرعة عنه والموقعة من قبل كل «الدول» المعنية، ولكن تطبيقها وممارستها عادة ما تكون حسب خصوصيات «الدولة» الحاكمة لشأنها الداخلي.
بين الغرب الاستعماري والغرب الكافر، ضاع هؤلاء المعلقون على شارلي إيبدو



عند هذا المفترق، اختلف المعلّقون والخطباء وقدم أكثرهم رؤى تلفيقية للموضوع، متعثرين في رؤية الحرية نفسها، معلنين عدم تحمّلها، ليصلوا مؤكدين بطريقة أو أخرى إلى «إذا كانت الحرية هكذا فلا نريدها لنا». والأدهى، لا نريدها لهم أيضاً وتحديداً في داخلهم الاجتماعي المقونن، وعليهم هم إصلاحه كي يناسبنا ـ (وهنا ندخل في خلطبيطة مصطلحاتية/شعاراتية) ـ فالغرب مثلاً هو الغرب وكتلة واحدة، فسطاط كافر معاكس لوجودنا. هو وحضارته (الحضارة الغربية) وثقافته (الثقافة الغربية) وأخلاقه وعالمانيته وإلخ من المنجزات والمفاهيم والتكنولوجيات، التي أساء هذا الغرب فهمها وممارستها، ضاربين صفحاً عن كل الأداء الاستعماري لهذا «الغرب»، لتصبح المسألة هوياتية تراثوية مكتشفين في إستعادة إجترارية، أن هناك تحاقداً مستحكماً!، يرجع إلى الحروب الصليبية كجدار تاريخاني، تبدأ منه معاناتنا مع هذا الغرب الذي سوف نعرّف أنفسنا به على أنه كل ما هو عكسنا. لذلك بدت جلّ هاتيك التعليقات والخطب النارية منطلقة من مسلّمات معلوماتية، خالية من الجدل عمومية لا ينتطح فيها عنزان، لتعود المسألة برمّتها إلى ذهنية الغزو كمرجعية وكسلوك بدهي ناتج من ثقافة ذات ألوان خارجية مختلفة، ولكن عمقها لمّا يغادر القرن السابع ولا الصحراء الرملية بعد، حيث يطرح السؤال نفسه بحدة لنواجه حقيقة يتمّ تجاهلها، أوالمواربة حولها، وهو: هل الغرب في منأى عن تكفيره كفسطاط معادٍ في حال عدم وجود الرسوم المسيئة؟
أعتقد أنه أمام هذا السؤال، تصبح المسألة الاستعمارية، هي مسألة ثانوية أمام ثقافة الغزو حتى في اليوتوبيا الشعبية، ناهيك عن تنظيرات الإسلام السياسي والإيديولوجي المعلنة والتي لا تحتاج إلى استقصاء فهي أمام أعيننا، (نتذكر تكفير الباحثين من أمثال علي عبد الرازق على يدي الأزهر بالذات، ومحمد شحرور وغيرهم كثر) لتبقى أحجية الإسلام الصحيح حبيسة الحوار الداخلي المسوّر بالتراث ومنتجاته، وعليها يتم بناء دعوات تجديد الخطاب الديني، (كمواربة عن دعوة الاصلاح الديني الأنوارية). وهي دعوى شكلانية تقصد تقديم المحتوى التراثي بأشكال جديدة، كانتقال من المنبر إلى شبكة الإنترنت مثلاً، بدعوى التحديث والعصرنة، ليتحول «الغرب» نفسه إلى أحجية عصية على التعريف، وبالتالي عصية على تبيّن أو تعريف أي علاقة معاصرة واضحة معه أو به. وعلى هذه الأحجية تم تجاهل فرنسية القتلة، والتركيز على ديانتهم، ضاربين بعرض الحائط كل ما يمكن أن ينظّروا له، حول الهوية التي يسعون إلى إشهارها بناء على حداثيتهم المزعومة؛ فهؤلاء القتلة/الشهداء هم مسلمو الهوية أولاً، والباقي تفاصيل تخضع لنقاش داخلي بين مسلمين (حسب اعتقاد «الحداثي» الراحل محمد عابد الجابري على الأقل)، ليقرّوا هم مشروعيتها، مهما كانت معاني الانتماء إلى الأمة أو المجتمع أو الدولة في هذا الغرب/الفسطاط، لتتصدع الحرية نفسها بين أيديهم كمنجز ثقافي ملك للحضارة الإنسانية جميعها، وذلك في تناول ثلاثية الاعتقاد والرأي والتعبير.
وهنا لا بد لنا من المرور على قوانين معاداة السامية المفعّلة في «الغرب»، والسؤال هو: هل من المستحيل الحصول على مثلها؟ طبعاً يمكن، بوسيلة النضال ضمن الحركية الحقوقية والقضائية القانونية لمواطني تلك الدول المسلمين، أو على الأقل النضال في سبيل إلغائها، خصوصاً أن المجتمعات ذات الغالبية المسلمة (العربية مثلاً) والكثيرون غيرهم من الأمم والشعوب، لم يشاركوا في مذبحة أو محرقة وليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل، اللهم إلا إذا تضمّن عقدهم الفردي للحصول على إحدى جنسيات هاتيك الدول، حمل وزر ما تقدم وما تأخر من ممارسات مجتمعات، قرروا بإرادتهم الانتماء إليها وحمل هويتها؛ فالقوانين تخص مجتمعاتها داخلياً، والمتعاقدون يحق لهم سبيل ما يرونه مصلحة اجتماعية، حيث يمكنهم الوصول وانتزاع قوانين مناسبة لا تهتك عقدهم طبعاً. وهنا نلحظ تجاهلاً أكيداً لقوانين الرقابة الصارمة (الاعتدائية تحديداً) على الفكر والرأي والاعتقاد المرعية في البلاد، التي أتى منها أو يكتب فيها هؤلاء «المحللون»، مع الأخذ في الاعتبار أيضاً، هؤلاء المناضلون في تلك البلاد الغربية، الذين يحاولون إلغاء هذا الاستثناء القانوني المجحف، بالنسبة لهم هم كأعضاء في مجتمع.
بين الغرب الاستعماري والغرب الكافر، ضاع هؤلاء المعلقون على شارلي إيبدو، خصوصاً هؤلاء الذين يكتبون في أكثر من مطبوعة، ويظهرون على أكثر من شاشة، حيث جاءت تعليقاتهم متعاكسة مع بعضها حسب التوجه «الموضوعي» لتلك الوسائل. ومع هذا بدت هذه التعليقات والتحليلات مطمئنة وكأنها تعالج بديهيات، أو كأن كتابها ينتمون إلى منظومة حقوقية خاصة وفريدة. لذلك بدا تناول المسألة هلامياً من دون أي مبادئ وبشح واضح في المفاهيم الحقوقية التي تؤسس لرؤية أحداث كهذه، حيث ظهروا تماماً كالسائر على حبل يهمه التوازن أولاً، لقطع المسافة ومن بعدها ليس مهماً ما سوف يأتي. وهو ما جعلهم يستمرون في تجاهل موضوعة الإصلاح الديني، كاستحقاق مجتمعي تتطلبه ضرورات الارتقاء؛ فبدلاً من أن تكون الحادثة شرارة انطلاق للعودة الى هذه الموضوعة المستعصية، صارت شرارة للبدء بتعليم «الغرب» كيفية وضع القوانين والخطط داخل مجتمعه هو، في محاولة ساذجة لتمويه واستبدال الإزدراء الاستعماري، بالحقد الإيديولوجي. وهي مسألة تحتاج إلى دقة معرفية حداثية لرصدها؛ فالازدراء يقتضي وجود مكانتين بين قوي وضعيف، لا مجال فيها لإضعاف القوي لنفسه، بل الضغط على الضعيف كي يصبح أكثر ضعفاً وتخلّفاً. وهذا ما نبّه إليه جلّ رواد النهضة العربية، وقرعوا أجراس الإنذار في موضوعة الإصلاح الديني وغيرها، مستشرفين هذه الوقوع في هذه المكانة (الازدراء وليس الحقد) إذا لم نسارع إلى النهوض، بما تقتضيه قوانين العصر وتكنولوجياته. أما التنظير للحقد الإيديولوجي فيؤمّن مكانة متساوية مع «الغرب»، (خصوصاً مع الشرعة العالمية لحقوق الإنسان!). هذه المكانة تبيح استخدام تكنولوجيا الغزو ذات الفكر البدائي كقسط تشاركي في العصر، وكتعبير حقوقي وهمي دفاعاً عن المكانة المفترضة، ذلك أن هذا «الغرب» مدان بالحقد علينا سلفاً مهما فعل، ليختلط مفهوما المنافسة والعداوة ويتمددان ويتقلصان، حسب الإرشاد الثقافي المتاح عند مجموعة السلطات المتنوعة والمتراتبة، حسب أولويات الترغيب والترهيب المتوفرة والمستعملة بين ظهرانينا.غياب «الغرب» الاستعماري وحضور «الغرب» الكافر الذي تمكن «مسامحته» تكتيكياً، (ويبدو التسامح هنا كأطروحة هزلية، بالإضافة إلى عدميتها)، ما صبغ الأغلبية الغالبة لكل خطابات المعلقين المؤدلجين المتفاجئين بالحادثة، وكأنها غريبة عن الذهنية المتداولة واستثنائية وغير متوقعة! وهذا ما يغيّب الاستعمار تماماً الذي لا يحب ولا يكره، بل يزدري ويمارس سطوته تبعاً للمصالح التي قد تحتاج إلى اللين أو العنف. ذاك الاستعمار الذي تتم خدمة حضوره البهي عبر المحافظة على التخلّف ورفض قيم الحداثة، ومماحكة الوسائل المفضية إلى مقاومته، عبر المزاودة عليه شعاراتياً، حيث بدت هذه التعليقات تثني على ما وصلنا إليه من وعي لهذا الحقد الغربي الأعمى الذي تسبب في حادثة شارلي إيبدو وأمثالها! متناسين أن الازدراء الاستعماري، تسبّب في ذبح آلاف السوريين والعراقيين والنيجيريين، لنفس الأسباب الإيديولوجية، التي نقلّبها تحليلاً وتعليقاً وتمحيصاً، ونختلف بشأنها سائقين كل ما يمكن رصده من الأدلة التراثية، في متاهة حوار داخلي متردد وهاذن وعقيم. وكأن هؤلاء اقل قيمة إنسانية من ضحايا الحادثة لأنهم قضوا بسبب الاستعمار وليس بسبب حرية الاعتقاد، لنعود من جديد إلى السؤال البدئي والذي تبيح الإجابة عليه قول ما نريد: هل نحن فعلاً كجماهير وكسلطات متنوعة، نعتقد ونتبنى مفاهيم وقيم حرية الاعتقاد والرأي والتعبير ونمارسها؟! حتى نقول ما قيل في حادثة شارلي إيبدو وأخواتها. وهل الاستعمار مسألة ثانوية وتافهة إلى هذا الحدّ، بالمقارنة مع حرية الاعتقاد التي نمارسها بكل حنان ولطف وتهذيب؟! ربما كانت الحرية نفسها هي المفهوم الأكثر غياباً عن ثقافتنا، وعلينا الدفاع عن هذا الغياب.
* سينارسيت سوري