حين يقعُ الإنسان فريسةً لمِصيدَة الموت المتربِّصة بكلّ الأحياء ويُغادر الحياة، يُثير موته ردَّات فِعل وأحاسيس متناقضة تَختلف باختلاف الموقع الذي يحتلُّه المُتلقّي لخبر الوفاة داخل دائرة العلاقات الاجتماعية والإنسانيَّة للميِّت. فيحرِّك «الغياب الأبدي للرّاحل» مشاعر متنوّعة مثل الحزن أو الفرح أو الشماتة أو اللاّمبالاة... وإذا كان الرَّاحل من الشّخصيات العامّة (رسَّام، مُغنِّي، زعيم سياسي، أديب...) فإنَّ وقع موته يشمل المجتمع بكلّيته أو ربما الإنسانية قاطبة مثل خبر قتل أيقونة الثورة تشي غيفارا. وقد لا تتَّخِذ الأحاسيس شكلاً مجرَّداً بل يُحوِّلها النّاس في بعض الأحيان لأشكال تعبيريّة مرئيّة ومسموعة كالنّواح أو الزّغاريد أو التّظاهر.

وقد كانت جنازة الموهبة العابرة للزّمان والمكان كوكب الشّرق أمّ كلثوم وجنازة الزّعيم الوطني جمال عبد النّاصر من أعظم الجنازات في التّاريخ العربي المُعاصر. وكانتا شاهدتيْن عن حجم الفاجعة التي ألمّت بالجماهير العربية برحيل أسماء بذلك الثّقل. حين تتدفَّق أمواج بشريَّة في جنازات إحدى الشَّخصيات العامّة، مثل جنازة بومدين في الجزائر أو الشّهيد شكري بلعيد في تونس أو عبد الناصر في مصر، فإنّ ذلك يعكس المكانة التي كانت تحظى بها هذه الشّخصيات لدى النّاس.
تراهن بعض التحليلات السطحيَّة على تغيير جذري في سياسات المملكة
مكانة ساهمت في نحتها إنجازاتها وتوجُّهاتها التقدميّة المعادية للفكر الظلامي وللاستعمار وانحيازها للكادحين (بالرّغم من الأخطاء التي شابت تلك التجارب). في المقابل هناك جنازات لشخصيَّات سياسيّة لا يُسمَع فيها هدير الجماهير، بل صوت هدير محرِّكات الطائرات التي تنقل المسؤولين وصنَّاع القرار الدّولي لحُضور مراسم التَّعزية الجافّة والبارِدة. خبر وفاة الملك عبد اللّه بن عبد العزيز كان من النّوع الثَّاني الذي تهتزّ له المؤسسات الرسميّة الدوليّة، وقد عِشنا سباقاً محموماً بين الرؤساء والملوك العرب في عدد أيَّام الحِداد التي يقرّرونها في بلدانهم وفي التغنِّي بفضائله لكن، وبالرُّغم من المجهودات الجبّارة المبذولة من أقلام آل سعود وإعلامهم لتصوير عبدالله بن عبد العزيز على أنّه زعيم عربيٌّ مُنقطِع النَّظير، فإنّ الشعوب العربيّة لم «تهتزّ لها قصبة» لخبر موته، ولم تَملأ الشَّوارع باكيَة أو مودِّعةً إيَّاه. لأنَّها وببساطة لم تَرَ منه ما يدفعها لذلك، بل ربَّما رَأت منه ما يدفعها إلى الانتفاض ضِدَّه. فالتَّاريخ لم يتوقَّف عن تدوين الفظائع داخل السعودية إلى حُدُود الأيَّام الأخيرة من حُكم عبد الله بن عبد العزيز، والتي كان آخرها جلد المدوِّن رائف بدوي ودعم التَّنظيمات الإرهابيَّة في سوريا والعراق. وفي هذا السِّياق تراهن بعض التَّحليلات السطحيَّة على تغيير جذري في سياسات المملكة مع الملك الجديد سلمان بن عبد العزيز والتحويرات الوزارية التي أجراها، مَثَلُهم في ذلك كمَثلِ الذين يراهنون على وجود «يسار إسرائيلي» يمكن التَّعويل عليه والتّحالف معه للنضال ضدَّ الاحتلال الصّهيوني.
إنّ النُّظم السياسيَّة الملكيَّة هي بطبيعتها أنظمة رجعيّة لأنّها تعني أن تُورَّث فيها السُّلطة دون مراعاة لأيّ مقاييس، فالكفاءة لا معنى لها في هذه النُّظم ورغبة الشَّعب هي آخر ما يُنظر له، والمقياس الأوَّل والأخير هو القرابة الدمويَّة الّتي بموجبها انتقل الحكم من عبد الله بن عبد العزيز بعد موته لأخيه سلمان بن عبد العزيز. ومن المؤكّد أنّ الملك الجديد وطاقمه الجديد الذي تمَّ تعيينه بعد تصفية جناح الملك السابق في أهمّ المناصب السياسيَّة المُؤثِّرة، سيحافظ على «الثّوابت» التي سارت وفقها المملكة منذ تأسيسها إلى الآن. ومن أهمّها التّحالف مع الاستعمار، ومساعدته لوجستيًّا ومادّياً على تنفيذ سياساته العُدوانيّة في المنطقة. حيث أنّ النَّاظر للتَّاريخ يكتشف أنَّ تغيُّر الأسماء الحاكمة في مملكة قطع الرؤوس أو صراع الأجنحة داخل أسرة آل سعود لا يعني تغيُّراً في السّياسات المُتَّبعة من قبل السلطة في السّعودية، التي تحافظ على خطّ عام يقوده «عقل» تكفيري وهابي رافض لكلّ أشكال الحضارة والحداثة التي راكمتها الإنسانية، وحاقد على المرأة التي يعتبرها عورة وعبئاً على المجتمع. ويتعدَّى تأثير هذا الفكر الظَّلامي الحُدود الجُغرافيَّة لمَملكة قطع الرُّؤوس لِيَشْمل عدّة بلدان وعدّة مجالات. وهُنا يأتي دور المال النّفطي الذي يلعب دورا قذِراً في شراء الذِّمم، وأصبح بسببه العديد من الضّمائر مُجمَّداً في ثلاجات البترودولار. إنّ تركيبة الطّبقة الحاكمة في السعودية متشعّبة ومركّبة، وهي مرتبطة عضويّاً منذ ظهورها إلى اليوم بمصالح الرأس المال العالمي. فهي عبارة عن مشايخ قبائل وجدوا أنفسهم، بدعم من الاستعمار، يحكمون دولة لكن ليس بفكر الدّولة وإنّما بفِكر قبلي وذكوري متخلّف ومتحالف مع رجال الدين الظّلاميين. وقد تحوّل هؤلاء بفضل الثّروة النّفطية الهائلة إلى برجوازية كمبرادوريّة لكن بممارسات إقطاعيّة في تعاملها مع ما تُسمّيه «الرَّعِيَّة».
ومن هذه الزّاوية فإنّه لن تتغيَّر السّياسات السعودية على المُستوى الدَّاخلي والخارجي دون تغيير الطّبقة الحاكمة برُمّتها. وإنّه لَمِن الجنون والعبث الرّهان على النّفط لإخماد الحرائق.
* كاتب تونسي