بولس الخوري *ابتداع طالعنا به السياسيّون المستوزرون: قالوا بوزارات سياديّة وقياديّة وخدماتيّة، وبوزارات أخرى لا يطمع فيها الطامعون لكونها غير ذات فائدة... عجيب غريب تفكير سياسيّينا اللبنانيّين. أقول لبنانيّين، لكونهم مواطنين على غرار غيرهم من سائر المواطنين في هذا الوطن الواحد. وقلت لبنانيّين، ظنّاً منّي أنّ ما يهمّهم لا يختلف أساساً عمّا يهمّ أيّ مواطن لبنانيّ آخر. وفاتني أنّ المجتمع اللبنانيّ تميّز من غيره من المجتمعات بأنّه مجتمع طبقيّ، فيه طبقة السياسيّين، وطبقة المواطنين. وفيه للسياسيّين ما لا يحقّ للمواطنين. فللسياسيّين أن يقولوا إنّ البلد الذي استوطنوه إنّما هو ديموقراطيّ بامتياز، فيما ألّفوا طبقة سياديّة قياديّة، إمّا بتصويت الشعب لا باختياره الحرّ، وإمّا بحقّ الوراثة أو الثروة أو البطش أو بما شاكل ذلك من الأسباب، علمًا بأنّ هذه الأسباب جميعًا تأصّلت في التوزيع الطائفيّ، أي في تقسيم الوطن إلى طوائف هي بمثابة أوطان للمنتمين إليها. وممّا يعزّز القول بطبقيّة المجتمع اللبنانيّ، ما نشهده من صراع بين السياسيّين على مقاليد الحكم. حتّى صار المشهد أشبه ما يكون بمسرحيّة يقوم السياسيّون بتمثيل أدوارهم فيها أمام جمهور المشاهدين من الشعب... ولعلّ الشعب لم يعد يأبه لمسرحيّات من هذا النوع، لكونها لا تمتّ إلى حياة المواطنين بصلة، ولكونه هو يكدّ جاهداً في طلب أسباب العيش.
ما معنى أن تكون وزارةٌ ما سياديّة إذا كانت السيادة للشعب... في الديموقراطيّات؟ وما معنى أن تكون وزارةٌ قياديّة إذا كانت القيادة لمن اختاره الشعب... في الديموقراطيّات؟ أمّا القول بوزارة خدماتيّة، فذلك يصحّ في وصف أيّ وزارة، حيث الوزارة أصلاً وُضعت لخدمة الشعب ولتلبية حاجات المواطنين. ولنا في ذلك عبرة في ما تسمّى به الوزارة في اللغات اللاتينيّة مثلاً، حيث مفردة الوزارة يقابلها مفردة ministère بالفرنسيّة، تفرّعًا من اللفظة اللاتينيّة ministerium، التي تعني الخدمة. فالوزير، بما كان ministre، ما هو إلّا الخادم. وذلك يصحّ في مجال التنظيم الدينيّ، حيث يُقال إنّ الكاهن خادم الرعيّة، وحيث يُقال إنّ أسقف روما رئيس الكثلكة هو خادم خدّام الله. وذلك يصحّ أيضاً في مجال المؤسّسات التجاريّة، حيث يدخل الزبون فيبادره المدير بالسؤال: كيف لي أن أخدمك؟
وليس هكذا الأمر حين يتاح للمواطن أن يلتقي الوزير، فلا يقول له الوزير كيف لي أن أخدمك؟ بل يسارع المواطن إلى الاستجداء بدلاً من إصدار الأمر.
إذًا ليس من وزارة سياديّة، وليس من وزارة قياديّة، بل جميع الوزارات خدماتيّة، عليها العمل على تلبية حاجات المواطنين الحياتيّة. علماً بأنّ الوزارة تشمل الوزير، بوصفه رئيس الخدم، وما يسمّى الإدارة، أي مجموع الخدم.
يبقى أن نعرف ما هي حاجات المواطنين الحياتيّة. لهذا الغرض كان الأحرى استفتاء المواطنين أنفسهم، بدلاً من التكلّم باسمهم. فإذا طُلب من أيّ مواطن لبنانيّ أن يسردها، فقد يأتي جوابه على النحو الآتي: الحاجة الأولى هي الأمن والاستقرار، أي الاطمئنان إلى تحاشي الاعتداء على النفس والممتلكات والعمل، قتلاً أو إكراهاً أو إقصاءً... فالاطمئنان إلى الوجود وإلى الحرّيّة وإلى الاشتغال بالإنتاج وإلى إطلاق الطاقات الطبيعيّة، هو الذي يمكّن من الالتفات إلى الحاجات الحياتيّة الأخرى. منها العمل، أي أن يجد كلّ مواطن في وطنه عملاً يعتاش منه، فلا يكون في الوطن أحد عاطلاً عن العمل، أو محشوراً في الإدارة حشراً من دون عمل.
والعمل حاجة لكونه إطلاقًا لغريزة الخلق والإنتاج يكوّن الإنسان به شخصيّته المميّزة. ومن الحاجات أيضاً السكن لكونه يجعل الإنسان يطمئنّ إلى كيانه عن طريق شَغله حيّزًا يخصّه، ويعترف مواطنوه له بمثل هذا الوجود. ومنها الغذاء للبقاء في الوجود ولاستعادة الطاقة على العمل. ومنها اللباس للوقاية ولإظهار الشخصيّة في المجتمع. ومنها حرّيّة التنقّل إلى مكان العمل أو إلى لقاء الأقارب والأصدقاء أو إلى مكان الترفيه. ومنها ما يتعلّق بالصحّة، من وقاية وعلاج طبّيّ. ومنها التربية للجميع ولكلّ واحد بحسب طاقته وموهبته، فلا يكون في المجتمع أمّيّ، كما نرى بعض الأمّيّين الذين لم يحظوا بالتربية يضحّون بكلّ ما لديهم من أجل إتاحة الفرصة لأولادهم بأن ينالوا نصيبهم من التربية. ومن حاجات الناس أن يعلموا بما يحدث في وطنهم وفي العالم، وبما هي عليه علاقة وطنهم بسائر الأوطان. والمواطنون يحتاجون أمسّ الحاجة إلى هيئة تراقب أداء سائر الخدمات، فتصحّح ما فيه من خلل، تقاعساً أو فساداً وإفساداً أي استغلالاً من أجل مصالح شخصيّة. فقد يكون ذلك عن طريق تفعيل المجلس الدستوريّ ومجلس القضاء الأعلى والتفتيش المركزيّ ومجلس الخدمة، وأيضاً عن طريق الاستماع إلى شكوى الناس.
هذه الوزارات الخدماتيّة ليس فيها ما يتقدّم على غيره، أو يفضل غيره، بل جميعها على مستوى واحد من الأهمّيّة. ذلك إذا نظرنا إليها من زاوية حاجات الناس الحياتيّة المتساوية الأهمّيّة والإلحاح، لا من زاوية طمع الطامع بالتسلّط على الناس عن طريق احتكار الأسباب التي تُلبّى بها حاجات الناس.
ثمّ إنّ هذه الحاجات قد تقوم بتلبيتها مؤسّسات القطاع العامّ والقطاع الخاص. فالمطلوب إذّاك أن تكون من مهمّات أجهزة الرقابة التأكّد من أنّ كلّاً من القطاعين يؤدّي المطلوب منه، وأنْ لا أحد من أفراد القطاع العامّ يسعى إلى تحويل منصبه إلى فرصة سانحة لتحسين أوضاعه الخاصّة وفرض هيمنته على غيره من المواطنين، وأنّ القطاع الخاصّ لا يتستّر بخصوصيّته كي يتحكّم في الناس بحجّة خدمتهم وتلبية حاجاتهم.
ثمّ لمّا كانت حاجات الناس على ما ذكرنا، قد يعجب المواطن من القول بعشرين أو ثلاثين وزارة، بدلاً من جعلها على عدد الحاجات، بل أقلّ. ولا ضير في أن يكون الوزراء من غير أهل السياسة، بل بالحريّ من الذين يصفونهم بالتكنوقراطيّين، إذ لا خوف أن يكون التكنوقراطيّ يعمل لمصلحته أو لمصلحة طائفته. وقد يبدو للمواطن أنّ القول بالعشرين أو الثلاثين لا يمتّ إلى حاجاته بصلة، بل إنّ مردّه إلى نظام التعدّد الطائفيّ وتوزيع المناصب الخدماتيّة على الطوائف، بحيث يكون لأكبرها حجماً وزارتان أو ثلاث أو أكثر، وللأصغر حجماً وزير واحد، أو وزير من دون حقيبة، أي وزير ليس عليه أن يخدم المواطنين، بل أن يمثّل طائفته وحسب. وهذا من غرائب النظام الطوائفيّ الديموقراطيّ التوافقيّ، الذي جعلوه «رسالةً» ومثالاً يحتذى. قد يُفهَم إذّاك أن يكون لبنان «قطعة سما»!
يحكى أنّ كاتو (Cato)، بعدما حكم روما ثمّ استقال، عاد إليه الشيوخ فوجدوه ممسكاً بمحراثه يُعدّ حقله للزرع، وطلبوا إليه العودة إلى الحكم. فقال: ألم تجدوا من بينكم أحداً يكون أجدر منّي بالحكم؟ ولمّا كان الشعب اللبنانيّ يكنّ لسياسيّيه الاحترام ويظنّ أنّ كلّ واحد منهم أهلٌ ليقوم بمهمات الحكم والخدمة العامّة، فيا حبّذا لو نرى أحدهم لا يسارع إلى الحصول على هذه الوزارة أو تلك، بل يتردّد ويسائل نفسه هل هو أهلٌ لحمل المسؤوليّة، وما أثقلها، وللقيام بكلّ ما يقتضيه إرضاء مواطنيه وخدمتهم وتلبية حاجاتهم.
* كاتب لبناني